شعار قسم مدونات

أزمة الخليج في عيون رضوى عاشور

مدونات - رضوى عاشور الروائية

في الـ"أطياف" التي اعتمدت فيها على أسلوب التداعي الحر للأفكار -وقد كانت تبدع في أي فن تكتبه- اعترفت الأديبة الراحلة رضوى عاشور أنّ ما دعاها لكتابة فصولها الثلاثيّة الموسومة بـ"ثلاثية غرناطة" هي حرب الخليج الأولى التي كانت مستعرة وقتذاك..

 
قبل سنوات، أي وأنا أقرأ الرواية للمرة الأولى، لم أفهم كيف ربطَت الموضوع بحرب الخليج، كان صعبًا عليّ أن أفهم، فقد عشت مع الرواية أيامًا أندلسيّة بكل جوارحي، أليست هي التي قالت "تكتسب الأماكن فجأة معنىً جديدا حين تتعرف على حكايتها"؟ كنتُ أتجوّل في البيازين وفي حواري غرناطة ولم يخطر ببالي أبدًا أنني أتجوّل في شوارع الرياض وبغداد والكويت! لم استوعب الفكرة حينها، ولم تساعدني الكاتبة في حلّها حين قالت إن الكثيرين يعتقدون بأنّ زيارتها لإسبانيا هي السبب وراء هطول فكرة الرواية وغزارة حرفها -فزيارة أطلال الأندلس تلهم الشعراء وتلهب القرائح- إذن لستُ وحدي تصورّتُ الرواية بعيدًا عن الواقع المعاش، بعيدًا عن التاريخ المعاصر تمامًا "بعيدا عن بلاد القهر والكبتِ" لم يراودني شك في أن نوبة حنين إلى تاريخ مجيد وأساطير رومانسية في غالبها -كما هي عادة الشعراء- كانت هي السبب.. لم أستوعب، ولم أقف طويلا لمحاولة الفهم، لم تكن المعلومة ذات بال في سياق الأطياف، كان لابد من تجاوزِها، وهكذا فعلت!
 
تقفز هذه الفقرة من أدراج الذاكرة إلى طاولتي.. لم أكن بحاجتها لأفهم ما يدور اليوم على الساحة الخليجية، "والعربلمية" كلها.. وبالمناسبة، فلفظة العربلمية أخذتُها من أحد حلقات مسلسل مرايا..

  

أطياف ومرايا، تحدّثنا عن رضوى وهانحن أمام ياسر العظمة أيضا! هزلية واقعنا تستحق استدعاء هذه الأيقونة الكوميديانية الساخرة.. يقولون: الشيء بالشيء يذكر! من سخرية الواقع أن العظْمة لم يكن عظيمًا بما يكفي، ومن حظّ رضوى والماغوط، وغيرهما، أنهم غادروا قبل أن يسمحوا للواقع أن يسخر منهم.. من يدري؟ فحتى غوّار خدع الجميع!
 
يجب عليّ أن أفعل شيئًا ما للعودة إلى موضوع هذه الحكاية، فاستحضار الأمثلة والشخوص سيصل بنا إلى أثينا ربما!

 

تتساءل رضوى
تتساءل رضوى "لو قُدّر لأهل غرناطة أن يعلموا الغيب، هل كانت تبدو السنوات القليلة التي أعقبت ضياع بلادهم قاعا لا قاع بعده للمهانة والانكسار؟" ضع مكان غرناطة ما شئت من أسماء الدول العربية

 

كانت رضوى محقّة تمامًا، اليوم قرأت المشهد بعيونها، زالت حِيرتي واستوعبت أسبابها، عليكم أن تقرؤوا النص بعيون كاتِبِه لتُجاب تساؤلاتكم، لا يحدث كل يوم أن تتاح أزمة تفسّر لنا سطرًا في رواية! رضوى لم تكن مجرّد أديبة هاوية، بل حوريّة تسبح في لجج الأفكار، كانت شاعرة، أمّ شاعر، وزوجة شاعر، ما أجمل هذا المشهد: عائلة كل أفرادها أدباء.
 
الخليج الذي أهدى للأدب ثلاثيّة غرناطة يعيش اليوم أزمة من جديد، ولكنها بدون طيف رضوى!
يعيش العالم العربي أزمات متجددة، لكنّ أحدا لم يربط غرناطة بواقعه كما فعل قلم رضوى!
يعيش المواطن العربي حالة ثلاثيّة الأوجاع.. ولا من يجيب رضوى!
 

"هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا" رضوى عاشور

وما يحدث من صبيانيات بين حكّام المنطقة شيء يدعو للسخرية والبكاء في آن، إنهم بمهارة يجدون أسبابًا لا تنتهي لصراعاتهم، يجعلونها منطقيّة رغم أنف المنطق، لكن المواطن أو المشاهد يستطيع أن يرى من بعيد، دون أن يُفسد عقله بمنطقهم، إن ما يحدث اليوم هو نفسه ما حدث بالأمس، بل أنا على يقين تام بأنّ حكّام غرناطة وأخواتها، كانوا يتدرّعون بأسباب لا تقلّ منطقية عن أسباب حكام اليوم في تبرير مشاكساتهم الصبيانية الهزليّة، كما لم تكن حجج البيزنطيين في القسطنطينية تافهة عندما تركوا جيوش الفاتح تدك معاقلهم، ليناقشوا سؤلا وجوديا: هل الدجاجة جاءَت أولا أم البيضة؟ ولقد جاءهم الجوابُ على وجهه!

 
ولأننا شعوب تعشق ماضيها حد الثمالة، ها قد كتب التاريخ للأجيال القادمة كم كانت مسألة جوهرية حسّاسة أن نعرف نحن اليوم "من الرئيس الذي اتصل أولا".. فمن سيقنع المستقبل أنها نقطة بالغة الأهميّة، كانت تستحق أن تستمر أزمة سياسية خانقة بسببها؟!
 
وبدهشة تتساءل رضوى: "لو قُدّر لأهل غرناطة أن يعلموا الغيب، هل كانت تبدو السنوات القليلة التي أعقبت ضياع بلادهم قاعا لا قاع بعده للمهانة والانكسار ؟" ضع مكان غرناطة ما شئت من أسماء، لدينا من البلدان المؤهلة ما يكفي لحجم خيال كل السائلين، كم سائل سيقبل حاملا معه هذه الدهشة يا ترى؟
 
رضوى الإنسانة كانت تُسابق الزمن، كانت تقفز بقلبها في التاريخ، وتكتب بقلمها للمستقبل، تريد ضرْب المعاني ولفت أنظار المجتمع ومثقفيه -ونخبه وحاكميه- إلى زاوية أخرى غير تلك التي يرون منها؛ زاوية الحماقة التي أسقطتْ غرناطة!
 
"هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا" رضوى عاشور.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان