شعار قسم مدونات

الأدب الملتزم!

مدونات - الكتابة

اللغة، "إنَّها دِرْعُنا الواقِيةُ، وهَوائِيَّاتُنا اللاَّقِطَةُ"، هي تَحْمِينا مِن الآخَرينَ وتُطْلِعُنا عليهمْ، هي اسْتِطَالةٌ لِحَواسِّنا. نحن في اللغَةِ كَما في أجْسَادِنا، نحسُّ بِها عفويا حين نَتَجَاوَزُها إلى غَاياتٍ أُخْرى، كما نحسُّ بأيدينا وأرْجُلِنا، ونُدْرِكُها عندما يَسْتَعمِلُها الآخرونَ، كما نُدرِك أطْرافَهم.

فاسألْ نفسكَ دائِماً، هل لدَيكَ شيءٌ تقولُهُ؟ شيءٌ يَسْتَحِقُّ مَشَقَّةَ إِيْصَالِهِ إلى الآخَرِينَ؟ فنحن لا نَكتبُ لأنفُسِنا وحسْب، فالأفكارُ طاقةً هائلةٌ تعذِّبُ العقلَ والروحَ، بيدَ أنها لا تفنى ولا تُسْتَحدَثُ، بل تَنتقِلُ للآخرينَ عن طريقِ الكتابةِ!

فَلِأَيِّ غايةٍ تَكْتُبُ؟ وما هو مشروعكَ؟ ولا يُمْكِنُ أن تَكونَ غَايةُ هذا المشروعِ، في أي حالٍ من الأحوالِ، التأملَ البحْت، لأن الحَدْسَ صَمْتٌ وغايةُ اللغةِ الإِيْصَالُ. فالمُؤلفَ يستطيعُ أن يُثْبِتَ نَتائجَ الحَدْسِ لنفسه، وسَتكفِيه -في هذهِ الحال- بضعُ كلماتٍ مُلقَاةٍ بِسُرعةٍ على الورقِ، لأنهُ يستطيعُ دوماً أن يَتَعَرَّفَ نَفسهُ فيها بشكلٍ كافٍ.

ليكونَ الكاتبُ ملتزمَاً فلا بد أن يعرفَ أنَّ الكلمةَ فِعلٌ، والكَشْفَ تَغْييرٌ، ونحن لا نستطيعُ الكشفَ إلا إذا أرَدْنا التغييرَ

والإنسانُ لا يكتبُ لذاتهِ، لأنه سيظلم نفسه بذلك، فمهما كان محترفاً لن يستطيعَ أن يرسمَ مشاعرَه على الورق كما هي، فأفضلُ ما عندهُ لن يكونَ سوى استطالة شاحبة لما تئنُّ روحُهُ تحتَ ثِقلهِ. وعمليةُ الكتابةِ تتطلبُ عمليةَ قراءةٍ كمقابلٍ تلقائي منطقي لها. فجهدُ المؤلفِ وجهدُ القارئِ المرافق لها هما اللّذانِ يُبْرِزانِ للوجودِ ذلكَ الموضوعَ العينيَّ والتَّخَيُّليَّ الذي هوَ عملُ الفكرِ وأثره!

أما الكاتبُ ليكونَ ملتزمَاً فلا بد أن يعرفَ أنَّ الكلمةَ فِعلٌ، والكَشْفَ تَغْييرٌ، ونحن لا نستطيعُ الكشفَ إلا إذا أرَدْنا التغييرَ. وقدْ يَكونُ الكاتبُ الملتزمُ غير مُحترفٍ، وقد يَكونُ مدركاً لذلكَ، لكن لَأن الواحد منا لا يكتبُ إلا هادفاً إلى النّجاحِ التّامِّ، فإنّ التواضُعَ الذي يَنْظُرُ بهِ إلى عَملهِ يَجبُ ألّا يُثْنيهِ عن بِنَائهِ كَما لو سَيَكونُ له أعظم الصَّدى. يجبُ ألَّا يَقولَ في نَفسهِ أبداً: ما يَعنيني ما دُمتُ لن أكْسبَ ثلاثةَ آلافِ قارئٍ إلا بِشِقِّ النَّفسِ؟ بل ينبغي أن يقولَ: ماذا سيحدثُ إذا قرأَ جميعُ الناسِ ما أكتبُ؟

والكلماتُ كما يقولُ بريس باران: "غدَّاراتٌ مَحشُوَّةٌ، فإذا ما تَكَلَّمَ أطْلَقَ". هو يستطيعُ أن يَصمتَ، لكنَّه ما دامَ اختارَ أن يُطلقَ، فَعليْهِ أن يَتَصرَّفَ كَرَجلٍ، مُسَدِّدَاً الأهْدَافَ، بوضوحٍ وإصرارٍ، وليسَ بِلا تَبَصُّرٍ كطِفلٍ مُغمِضِ العينينِ، لذَّتُهُ الوحيدةُ أن يَسمعَ دَوِيَّ الطَّلَقاتِ!

والكاتبُ قدِ اختارَ أن يَكشفَ ما يعرفُ للناسِ الآخرينَ حتى يستطيعَ هؤلاءِ أن يأخذوا مسؤوليتهم كاملةً تُّجاهَ الموضوعِ الذي عُرِّيَ على هذا النحوِ أمامهم. وظيفةُ الكاتبِ أن يعملَ بحيث لا يستطيعُ أحدٌ أن يَجْهَلَ العالمَ، ولا يستطيعُ أحدٌ أن يقولَ أنَّهُ بريءٌ منهُ.
 
الكتابةُ هي روحٌ تحولتْ إلى موضوعٍ. لكن ماذا نصنعُ بروحٍ؟ إننا نتأملُها عن مسافةٍ قريبةٍ. مع أننا لم نَتعوَّد على إظهارِ أرواحِنا في المجتمعِ بتَجرُّدٍ، لكنَّ بعضَ الأشخاصِ قد قرروا أن يضعوا أرواحَهم بمتناولِ الناسِ، ويستطيعُ الرَّاشدونَ كُلهم أن يحصلوا عليها! لذا أنا عندما أكتبُ أعرِضُ روحي للجميعِ، أمْنَحُها لهم! أُعَرِّيها أمامهم.

ولا يمكن ُ أن ننسى الارتباط َالأبدي بين حرية الكتابةِ وحرية المواطنِ، فنحنُ لا نكتبُ إلى عبيدٍ! وعندما تُهدَّدُ الحريةُ، تُهدَّدُ الكتابةُ هي الأخرى، ولا يكفي القلمُ للدفاعِ عنها. إذ سيأتي يومٌ يضطر فيهِ القلمُ إلى التَّوقُّفِ، لتتحولَ الريشة إلى سلاح، لأنَّ الأدبَ الملتزم لا بد وأن يرمي بكَ إلى قلبِ المعركةِ! فالكتابةُ هي أحد وجوه إرادةِ الحريةِ، وإذا ما بدأْتَ، فأنتَ ملتزمٌ، شئتَ أم أبيتَ!

ما مِنْ كاتبٍ إلا ويكونُ مصاباً بلَوثةِ جُنونٍ مُعديةٍ، فتَجِدْهُ مسْعوراً لا يَلوِي على شيءٍ، لعلّه يَصِلُ إلى حالةِ استحضار ذهنيةٍ يَتَجَلّى فيها لِيَحْتَملَ انْتِزَاعَ رُوحِهِ مِن مَكانِها لِيَكْتُبَ
ما مِنْ كاتبٍ إلا ويكونُ مصاباً بلَوثةِ جُنونٍ مُعديةٍ، فتَجِدْهُ مسْعوراً لا يَلوِي على شيءٍ، لعلّه يَصِلُ إلى حالةِ استحضار ذهنيةٍ يَتَجَلّى فيها لِيَحْتَملَ انْتِزَاعَ رُوحِهِ مِن مَكانِها لِيَكْتُبَ

فهل نستطيعُ أن نفترضَ ولو للحظةٍ، أن يقبلَ إنسانٌ أسوَدَ البشرةِ في بدايةِ القرنِ العشرينَ بأن يقضيَ حياتهُ في تأملِ الحقِّ والخيرِ والجمالِ الأبدي، بينما ٩٠ بالمئةِ من بني لونِهِ محرومونَ من أدنى حقوقِهم؟ إذا ما اكتشفَ أسوَدٌ من الولاياتِ المتحدةِ في نفسِهِ ميلاً إلى أن يكونَ كاتباً، فإنهُ يكتشفُ في الوقتِ نفسِه موضوعَهُ!

وحتى لو كانَ كلُّ كاتبٍ يعيشُ في قلبِ الحدثِ، فهذا لا يعني مطلقاً أنهُ واعٍ لذلكَ تمامَ الوعي، لأن معظمَ الناسِ يُمضونَ حياتَهم في إخفاءِ التزامِهم عن أنفسهم، وتمويههِ ليرتاحوا، وهذا لا يعني بالضرورةِ أنهم يحاولونَ الهربَ عن طريقِ الكذبِ، أو الفردوسِ المُصطنعِ، أو الحياةِ الوهميةِ، إذ يَكفيهم أن يُعْتِموا مصابيحَهم، أن  يَرَوا الأوائلَ دونَ الأواخرَ -أو بالعكسِ-، أن يتبَنَّوا الغايةَ ويمرُّوا مرورَ الكرامِ بالوسائل، أن يرفضوا التضامنَ معَ أشباهِهِم، أن يُجَرِّدوا الحياةَ من كلِّ قيمةٍ بالنظرِ إليها من وجهةِ نظرِ الموت، وأن يجرِّدوا في الوقتِ نفسِه الموتَ من كلِّ فظاعةٍ بالهربِ  منهُ إلى ابتذالِ الحياةِ اليوميةِ، وبإقناعِ أنفسِهِم -إذا كانوا طبقةً مُضْطَهدةً- أن بِمقدورِ المرءِ التَّملُّصَ من طبقتِهِ بواسطةِ عظمَةِ عواطِفِهِ، وبإخفائِهم عن أنفسِهم تواطُؤَهم معَ المُضطهدينَ بِزَعمهم أن الإنسانَ يستطيعُ أن يظلَّ حرَّاً في الأغلالِ إذا كانَ يتذوقُ نكهةَ السلامِ الداخلي!

غيرَ أن هناكَ رابطاً عجيباً بينَ الكُتَّابِ، هو خيطٌ شفَّافٌ لا مرئيّ لا ينقطعُ! يجعلكَ تشعرُ بأي كاتبٍ غيركَ وتشفِقُ عليهِ كما لو كانَ أنت! بل إنك لَتَتَخيَّلهُ وهوَ يَسكُب ُ مشاعرَهُ، ويعصُرُ أفكارَهُ أحرُفاً متناثِرةً لينسجَ منها كلماتٍ تلاحقُها روحهُ لتأسُرَها في محبَرتِهِ لتغدو جُمَلاً، ويُشَكِّلُ نفسَهُ على أوراقِهِ، وتشعرُ بهِ إذا استعصَتْ عليهِ الكلمات كيف قَدِرَ عليها حتى عادت سلسةً صاغرةً! فالكاتب عندما يقرأُ لغيرِهِ لا يقرَأُ ما بينَ السطورِ فحسب، بل يعيشُ كيفَ كتبَ الكاتبُ كلماتِهِ للتاريخِ وكيفَ زرعَ أحرُفَه للحصادِ!

الكتابة تجعلكَ تَحمِلُ عُمْرَينِ مع عمرِك، فالكُتَّابُ يكبُرونَ أسرعَ ويشِيبونَ أصغرَ، لتشيخَ مع كلِّ سطر تكتُبه، وتغضبَ لكلِ حقٍ تدافِعُ عنه، وكل قضيةٍ تومنُ بها
الكتابة تجعلكَ تَحمِلُ عُمْرَينِ مع عمرِك، فالكُتَّابُ يكبُرونَ أسرعَ ويشِيبونَ أصغرَ، لتشيخَ مع كلِّ سطر تكتُبه، وتغضبَ لكلِ حقٍ تدافِعُ عنه، وكل قضيةٍ تومنُ بها

فما مِنْ كاتبٍ إلا ويكونُ مصاباً بلَوثةِ جُنونٍ مُعديةٍ، فتَجِدْهُ مسْعوراً لا يَلوِي على شيءٍ، لعلّه يَصِلُ إلى حالةِ استحضار ذهنيةٍ يَتَجَلّى فيها لِيَحْتَملَ انْتِزَاعَ رُوحِهِ مِن مَكانِها لِيَكْتُبَ، لِيَنْضَمَّ إلى غِيْرِه من الكُتَّابِ وهم يُصَارِعُونَ شَيْطَانَهُمُ الأَوْحَد، حَامِل الوَحْي وسَارِق الإلْهام، فتَراهُم تارةً يَتَحَايَلونَ عليْهِ وتارةً أُخْرى يطْعَنُونَهُ عَبَثاً بأقْلامِهم دون جَدْوى. كما وتَجِدُ داخلَ كلِّ كاتبٍ بيجماليون حي، يَنْحتُ بِقَلَمِهِ في كلِّ مرة فينوسَ جديدة، لِيَعشَقَ ما صَنعَت يَداه ويَقَعُ في غَرامِها، لِيَنْكَبَّ يُقَبّلُ قَدَمَيْهَا بِجُنونِ وافتِتانِ الكاتبِ بعَمَلهِ وهيامهِ فيما أنتْجَهُ عَقْلُه، في مفارقَةٍ عَجِيبَةً تَجمعُ بينَ النَّرجسيةِ وجنونِ العظمةِ وبين المازوكِيَّةِ المُغرْقةِ في جَلْدِ الذَّاتِ.

 

وكَمْ منْ كاتبٍ عَظيمٍ -أو هكذا خُيَّلَ إليهِ- قاتلَ الآلهةَ كَهرقلَ لِيَكشفَ لَهُ هَاوٍ عن كَعْبِ أخيلَ ويُصيبَهُ في مَقْتَلٍ؟ ومِنَ الكُتَّابِ مَنْ لمْ نعرفْهم إلا مِنْ آثارِهمُ التي اسْتُشْهِدُوا بِسببِها فَشَهِدَت لَهم لا عليهِم، وكانوا قد كَتبُوها على جُلُودِهِم بِمدادٍ خالدٍ مِنْ دِمائِهم!

وإذا كانَ العقَّادُ قد قالَ أنَّهُ يهوى القراءةَ لأنَّ عندهُ حياةً واحدةً، وحياةٌ واحدةٌ لا تكفيه، والقراءةُ -دونَ غيرها- هي التي تُعطيهِ أكثرَ من حياةٍ، لأنها تزيدُ هذه الحياة من ناحيةِ العمقِ، فالكتابة تجعلكَ تَحمِلُ عُمْرَينِ مع عمرِك، فالكُتَّابُ يكبُرونَ أسرعَ ويشِيبونَ أصغرَ، لتشيخَ مع كلِّ سطر تكتُبه، وتغضبَ لكلِ حقٍ تدافِعُ عنه، وكل قضيةٍ تومنُ بها، لتضحكَ بعدَ كل فرح تصنعهُ، وتبكي عن كلِّ حزنٍ تُبدعُه، لِتُحِبَّ آلاف المرَّاتِ، ولتعيشَ التجارِبَ أضعافاً مضاعفةً، وتَحصُلَ على أجنحةٍ مخفيةٍ هبةً لكَ من الله، فاحذرْ أينَ تُحلِّق!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.