فالإنسان بما أنه – بالتعريف -كائن واعي، فإن وجوده إذن يشتمل دائما على وعيه. أي لا يمكننا التفكير في الوعي كشيء منفصل عن الوجود، طالما أن وعي الإنسان هو شيء في الإنسان، وبالتالي فهو دائماً جزءٌ من وجوده.
ولكن من ناحية أُخرى، هناك سؤال يمكن طرحه، وهو هل نختبر الوجود في ذاته بشكل مباشر وبدون توسُّط من الوعي، أم أننا نختبره من خلال الوعي؟ السؤال بصيغة أُخرى: هل وجود الإنسان هو واقع مباشر متحقق من تلقاء ذاته، أم أنه معطى من خلال الوعي حيث إننا لا نوجد إلا لأن وعينا يتوسط لكي يمنحنا الشعور الذي نسميه وجوداً؟ في الحالة الأخيرة سيكون الوجود الحقيقي، هو الوجود بمعزل عن، أو ما وراء الوعي بذلك الوجود.
هكذا إذن، تثير أبسط الحقائق بشأن ما ندعوه بوجودنا هذه الإشكاليات، هذا قبل كل شيء، قبل الطريقة التي يمكن أن نحيا بها، أو التي يمكن أن نعرف بها العالم، أو الطريقة التي نقيِّم بها وجودنا وحياتنا. فمنذ البداية وأمام الأشياء التي تبدو بديهية يجد الإنسان أنه بحاجة للتفكير. ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أن حقيقة وجودنا ليست معطىً جاهزاً، وعلينا منذ البداية أن نفكِّر لكي نرى ما يُمكن أن نكونه، فنحن لسنا حقائق بالنسبة إلى ذواتنا بقدر ما نحن أسئلة. وإذا كُنا نحن كذلك بالنسبة لأنفسنا، فما بال العالم بالنسبة لنا؟
قد يبدو ذلك بيديها للبعض كما نسمع دائما أن الإنسان بحاجة إلى معرفة نفسه والعالم، وأنه يطرح الأسئلة الكُبرى بشأن نفسه والحياة والوجود. ولكن في الواقع ليس هناك شيء بديهي إذا تأمّلناه بقوة أكبر. إن بداهة أي أمر من عدمها ليست خاصية موضوعية واقعية في الأمر ذاته، وإنما هي خاصيةٌ نضفيها نحن عليه، وهي تختفي بمجرد التفكير في الأمر من جديد. ولذلك فإن فكرة وجود الإنسان ووعيه وعدم انسجامه وجوديا ومعرفيا مع حقيقة الوجود تفقد بداهتها عندما نفكِّر فيها.
فإذا تخطينا مشكلة الوجود والوعي في جانبها المتعلق بوجود الإنسان ذاته، إلى علاقة الإنسان بالعالم الخارجي فسنجد أنه دائما بحاجة إلى شيء غير موجود لمواجهة هذا العالم الخارجي، شيء يجب عليه أن يخلقه بنفسه، وهو الإرادة، وبشكل أدق الإرادة العاقلة. بهذه الإرادة على الإنسان أن يواجه قدره المتمثل في وجوده ووعيه، عليه أن يعيش لا كما هو موجود، وإنما كما يقتضي العالم، ومن أجل ذلك فعليه أن يخلق شيئا آخر، هو المعرفة، أي الشيء الذي من المفترض أن يحل التناقُض بين وعيه ووجوده.
الإنسان الذي يصبح أكثر بساطة، ربما تصبح حياته أقل تعقيدا، إذا وُجد في البيئة المناسبة، تماما مثلما الكائنات البسيطة بحاجة فقط إلى البيئة الصحيحة |
أي أن الإنسان لا يكفيه أن يُوجد وحسب، فالوجود لا يعني الحياة، بل عليه أن يكافح من أجل أن يبقى وأن يحقق غايات أُخرى. عليه أن يحافظ على حياته بنفسه، وعليه بعد ذلك أن يجعلها حياة جديرة بأن تُعاش، وعليه أن يجد لها معنى ومغزى.
يبدو الأمر كما لو أن تعقيد الكائن سيعني بالضرورة تعقُّد شروط وجوده وحياته، فإذا نظرنا إلى الجمادات وجدنا أنها ليست بحاجة إلى أن تقوم بأي شيء من أجل المحافظة على وجودها، أعقد منها الكائنات الأدنى في سلم الحياة والنباتات التي يكفيها أن توجد في المكان الصحيح فقط لكي تنمو وتعيش، والمجهود الذي تبذله من أجل المحافظة على حياتها هو جزء من طبيعة وجودها نفسها. فطبيعة النباتات هي في الوقت نفسه شرطها للحياة. بينما الإنسان ليس كذلك، طبيعته كما هي ليست شرطا كافيا للحياة، وإنما عليه أن يستعين بالوعي والإرادة والعقل والأخلاق ومفاهيم أُخرى كثيرة، من أجل يستمر، وثم من بعد ذلك قد يجد نفسه بحاجة إلى أمر آخر هو معنى الوجود والحياة.
إن الإنسان بإمكانه بالطبع أن ينحط في درجات في سلّم التعقيد ليصبح أكثر بساطة وذلك بأن يتخلى عن وعيه الذي يجعله يتناقض مع الوجود والحياة، أن يكف عن التفكير بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة والذي يتيح هذا السياق إمكانية تمييزه بوضوح أكبر. فالتفكير بالمعنى الذي تتضمنه الطريقة التي يمكن بها للإنسان أن يستمر في الحياة، هو شكل من أشكال "الوعي" يمكنه أن يوجد عند كل الكائنات الحية بما في ذلك أكثرها بساطة: كيف نحصل على الطعام، كيف نهرب من الألم، كيف نحصل على اللذة، كيف نحمي أنفسنا، كيف نتكاثر.. إلى آخر هذه الأمور الغريزية، هو ليس تفكيراً بالمعنى الإنساني للكلمة، وإنما يوصف بأنه كذلك على سبيل المجاز.
الإنسان الذي يصبح أكثر بساطة بذلك المعنى، ربما تصبح حياته أقل تعقيدا، إذا وُجد في البيئة المناسبة، تماما مثلما أن تلك الكائنات البسيطة بحاجة فقط إلى البيئة الصحيحة، وسيكون بلا قدر وجودي ولا معاناة معرفية أو أخلاقية، ولكن بلا معنى أيضا، على الرغم من أنه قد لا يشعر بذلك. هل يُمكن أن يكون مفهوم "القدر الوجودي" للإنسان بهذا المعنى الذي نتكلم عنه هنا، هو التعبير الفلسفي عن مفهوم "الابتلاء" الموجود في الدين؟
إن الدين يطرح مفهوم الابتلاء في إطار أقل جذريةً وحِّدة من تلك الجذرية والحدة التي يظهر بها قدر الانسان الوجودي حين نفكِّر فيه بشكل فلسفي بمعزل عن أي مسلمات دينية. فالدين يطرح فكرة الابتلاء داخل تصور جاهز شامل للوجود والحياة والإنسان وللحقيقة، بحيث يتبقى على الانسان فقط أن يمتثل لهذا التصوُّر معرفيا ويستجيب للتعاليم الدينية ليكون قد تخطى أو على الأقل قد واجه هذا الابتلاء.
بالتفكير الفلسفي في المقابل يواجه الانسان ابتلاءً مفتوحا بلا حدود ولا نهايات، هنا عليه أن يتحمّل مسئولية أكبر وأثقل. ابتداءً من مساءلة فكرة وجوده نفسها، هل هي ما يبدو له كمعطى للحس المباشر، أم أن عليه أن يكشف بواسطة العقل والتفكير عن أبعاد أعمق لهذا الوجود- وجوده هو. ثم بقية القضايا التي عليه مواجهتها بعد ذلك، والتي يواجهّا الانسان علي أي حال، ولكن الأمر يختلف عندما تتم تلك المواجهة في حضور الفكر، أي يعيش الإنسان وهو يفكِّر في أثناء ذلك، وبالمعنى الحقيقي لكلمة تفكير كما سبق توضحيه.
تصور أن يوجد الإنسان في هذا العالم، ولكنه لا يعرف شيئا عن نفسه أكثر مما هو معطى لوعيه من دون تفكير. معنى ذلك مثلا من الممكن أن يحمل الإنسان تصورا سطحيا، وربما خاطئا عن نفسه ووجوده، فضلا عن الحياة والعالم.
لا يمكن للعقل الفلسفي الذي يواجه هذه المسؤولية أن يدعي الإحاطة بالإنسان أو بنفسه فضلا عن الوجود، ولكنه يملك وعيا أكبر على الأقل بالمشاكل التي يطرحها وجود الانسان في هذا العالم. وإذا كانت هذه الحياة عبارة عن ابتلاء فإن التفكير الفلسفي الحُر، وإن كان خارج الأُطر الدينية، هو الذي يتحمل العبء الأكبر من هذا الابتلاء. ويمكننا القول بأنه لكي يتحمل الإنسان مسئولية وجوده ليس من الضروري أن يعتقد بفكرة الميثاق الإلهي التي يطرحها الدين، يكفي فقط أن يفكِّر بجدية، وسيكون قد تحمَّل تلك المسؤولية الالهية نفسها وبشكل أثقل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.