شعار قسم مدونات

حينما يتحول الحب إلى سلعة

blogs الحب

كتب زيجمونت باومان في مؤلفه "الحب السائل": هذا الاتساع المفاجئ والوفرة الواضحة في "تجارب الحب" ربما يعززان بأن الوقوع في الحب (الوقوع في الحب والتماسه) مهارة يتعلمها المرء، وبأن إتقانها يزيد كلما زادت التجارب والمواظبة على التدريب. وربما يعتقد المرء (وهو يعتقد في الغالب الأعم) بأن مهارات "ممارسة الحب" تنمو بالضرورة كلما تراكمت الخبرة، وأن الحب التالي سيكون تجربة أكثر روعة من التجربة التي يمر بها حاليا، وإن لم تكن مثيرة ورائعة مثل تجربة أخرى قد تظهر في المستقبل.

هذه التجربة القادمة والتي وصفها باومان أنها يمكن أن تكون "الأكثر إثارة والأكثر روعة" تتطلب من الفرد أن يحكم التصرف في علاقاته ويحسن التخطيط بحيث يمكن أن ينجح الزمن الانتقالي بين العلاقة السابقة والقادمة، ويوفر كافة الظروف ليصل للذة المرغوب فيها، ثم يستعد مرة أخرى للتغيير.

في حياتنا اليومية والتي تحولت فيها العلاقة العاطفية إلى "سلعة" يتم تقييمها وفقا لمنطق "اقتصادي وتجاري" مبني على "الربح والخسارة" وتنتهي ويمكن الاستغناء عنها حينما لا تلبي رغباتنا "كمنتج تم استهلاكه"، يشير باومان أن التأقيت والمدى القصير اللذين تقوم عليهما حسابات المجتمع الاستهلاكي الحديث، يقومان بتوليد الحاجات بشكل مستمر، وتحويل كل قديم إلى شيء مستهجن يستحق أن يوضع في سلة النفايات، بما في ذلك المشاعر والأجساد والصلات.

حسب كاثرين جارفي لا شئ اسمهه
حسب كاثرين جارفي لا شئ اسمهه "حب من النظرة الأولى"، حيث أنها تذهب بنا بعيدا عن كل الأشياء الجميلة والأخلاقية والاجتماعية التي يبنى عليها الحب
 

وقد تحدث باومان في كتابه أن علاقاتنا الإنسانية عموما وعلاقاتنا العاطفية بالخصوص تحولت إلى علاقات "الجيب العلوي"، هذا المفهوم الذي مر عليه باومان في كتابه استنادا على كاثرين جارفي، والذي تفسره بفكرة أن المرء يحتفظ بالعلاقة في جيبه العلوي بحيث يمكنه إخراجها ( الاستغناء عنها) بسهولة متى أراد، فهي علاقات عذبة وعابرة، وتفترض أنها عذبة في الأساس لأنها عابرة، وأن عذوبتها في الوعي المريح بأن الفرد ليس مضطرا لبذل الجهد من أجل الحفاظ عليها والإبقاء على عذوبتها وقتا أطول، فعلاقات الجيب العلوي هي تجسيد للاستهلاك اللحظي والتخلص الفوري من النفايات.

ويشترط الكاتب على الأفراد الذين يريدون النجاح في هذه العلاقات (التي حللها باومان في كتابه وفسر أثرها على تفكك المجتمعات) شرطين اثنين:
أولا: إياك وأن تدخل في العلاقة بدون وعي كامل ويقظة تامة، فحسب كاثرين جارفي لا شئ اسمه "حب من النظرة الأولى"، حيث أنها تذهب بنا بعيدا عن كل الأشياء الجميلة والأخلاقية والاجتماعية التي يبنى عليها الحب، من وفاء وعطاء وتضحية وتفهم وبناء للعلاقة والحفاظ عليها إلى آخر يوم في العمر. لا يجب عليك أن تنسى سبب اختيارك لهذه العلاقة من الأول، حيث شرح ذلك باومان ب: "لا تخطئ الغرض الحقيقي من تلك العلاقة، فالمصلحة هي غرضها الوحيد، والمصلحة تتطلب عقلا ثاقبا لا قلبا طيبا."

وصف "اللذة" يعبر عن الرغبة المفرطة والعلاقات العابرة التي حلت في عصر الاستهلاك، وجعلت العلاقات أكثر سرعة وسهولة، فحسب باومان إن العلاقة تشير إلى لقاء عابر لا يستهدف إلا اللذة والمتعة

ثانيا: راقب ما تسميه كاثرين جارفي "التيارات العاطفية التحتية"، لا تدع لقلبك وقتا ليحب، ولا لعقلك وقتا ليفكر، ولوجدانك وقتا ليتأمل، احذر أن يأخذك الحنين، أو تفكر في المواصلة، لا تدع العلاقة تكتسب حقوقها الإنسانية، كن يقظا ولا تغفل، وحين تلاحظ أولى التغيرات، يقول باومان: اعلم أنه حان الوقت للانتقال إلى غيره، فالانتقال في حذر يعفيك من سخط الوصول، والمرور يمنحك كل ألوان اللذة.

وأنت تقرأ كتاب "الحب السائل" لا يمكن أن تخفي المشاعر المختلطة التي تسيطر عليك، والتساؤلات الكثيرة التي تجول في خاطرك، خصوصا حينما يختار "باومان" وصف "اللذة" كغاية للحديث عن الرغبة المفرطة والعلاقات العابرة التي حلت في عصر الاستهلاك، وجعلت العلاقات أكثر سرعة وسهولة، فحسب باومان إنها علاقة تشير إلى لقاء عابر لا يستهدف إلا اللذة والمتعة، حيث وصف العلاقات العابرة أو بتعبيره "العلاقات الصافية" قائلا: إنها ليست مثل الزواج في الماضي، "وضعا طبيعيا" مسلما بدوامه إلا في ظروف غير عادية، فمن سمات العلاقات العابرة أنه يمكن إنهاؤها متى شاء أحد الطرفين.

في ظل هذه المتغيرات الجديدة التي يعيشها المجتمع السائل، يتأمل الفرد في نفسه وفي علاقاته، ويخضع نفسه لمحاسبة ضميره، ثم يسأل نفسه بشيء من الخجل، هل فعلا أخفي علاقتي في جيب علوي، أم أنني قد أهديتها قلبي العلوي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.