شعار قسم مدونات

بيني وبيني

blogs - امرأة حرة

أَخْلُو بها في هَدْأةِ ليلٍ بَهيمٍ، أَنْشُدُ راحةَ بالٍ عزَّ نوالُها، ومِن قلبِ السكونِ يَعلو ضجيجٌ يُنبِئُ عن مُعتَركٍ حامي الوطيسِ يدورُ بيني وبيني:

– عامٌ تِلْوَ عامٍ، شهرٌ يَتْبعُ آخرَ، أسبوعٌ بعدَ أسبوعٍ، يومٌ وراءَ يومٍ، ساعةٌ تَدُقُّ أخرى، دقيقةٌ تَدْفَعُ أختَها، ثُمَّ.. ثُمَّ ثانيةٌ خاطفةٌ تُباغتُكِ فيها الملائكةُ لِتقبضَ روحَكِ، هكذا في طَرْفَةَ عينٍ يقطعُكِ سيفُ الوقتِ مُعلنًا نهايةَ موسم الغرس وبدايةَ الحصاد. وهكذا تمضي بكِ الحياةُ مِن الميلادِ حتّى المماتِ، فحتَّى متى؟ حتّامَ تسلُكينَ طُرُقًا وَعِرَةً مُسْتَعْذِبَةً زَيْفَ المعاني؟ لقد صارَ حديثُنا مملولًا، ولم يَعُدْ للتَكرارِ أثرٌ بما أنَّه لا شيءَ يتغيَّرُ!

تنهيدة:
ماذا أفعلُ؟ تعلمينَ أنَّني أحاولُ، وأريدُ السعيَ، وأتمنَّى الوصولَ، لكنّني لا أجني سوى الإخفاقِ، ولا نصيبَ لي مِن الفلاحِ. تُرى ما الذي جعلني أَضِلُّ حيثُ اللاعودة؟ أيُّ خطيئةٍ اقترفتُ كي يُطْبَعَ على قلبي فلا تَنْهَاهُ موعظةٌ، ولا يَزجرُهُ خوفٌ؟ أيُّ بَوارٍ يجعل المرءَ يَرى الحقَّ وينصرفُ عنه، يرى طوقَ نجاتِه ويُفرِّطُ به، يُوقِنُ أنَّ مُستراحَهُ في شيءٍ ولا يلوذُ إليه؟

أرأيتِ يا نَفْسُ سقيمًا على شفا الموتِ، وعِلَّتُه هي قلبُه، ولا رجاءَ مِن شفائه سوى بإصلاحِ هذه المُضْغُةِ، أتُراكِ تُعلِّلينَهُ بحياةٍ طيِّبةٍ وهو يتلوَّى مِن خواءِ رُوحِه؟
أرأيتِ يا نَفْسُ سقيمًا على شفا الموتِ، وعِلَّتُه هي قلبُه، ولا رجاءَ مِن شفائه سوى بإصلاحِ هذه المُضْغُةِ، أتُراكِ تُعلِّلينَهُ بحياةٍ طيِّبةٍ وهو يتلوَّى مِن خواءِ رُوحِه؟
 

– كفاكِ خِدَاعًا يا نَفْسُ، ودَعِي عنكِ هذه الأمنياتِ الخائرة، هذا ليس عَزْمًا بل زَعْمٌ، فما كانَ العَزْمُ يومًا وَهَنٌ. أنتِ لا تُحاولينَ، أنتِ تتوهَّمينَ المُحاولةَ، وتدَّعينَ المُكابدةَ، وكلُّ ما تفعلينَه هو ألّا تفلعي شيئًا سوى نَدْبِ الحالِ دونَ أنْ تُحَرِّكِي ساكنًا، غير آخذةٍ زِمامَ الخَطوِ نحو التغيير الذي تَرومينَه، ثُمَّ ها أنتِ تَصُبِّينَ جامَ غضبكِ على الحياةِ التي بلا معنًى، تلكَ التي اخترتِها أنتِ بإرادتكِ المَحْضَة!

• حسنًا، إنّني أُقِرُّ بذنوبي، غارقةٌ أنا في عَجْزي، مُتْبِعَةً نَفْسِي هَوَاهَا، مُتمنِّيَةً على الله الأماني، ولا يلوحُ في مَدَى بَصَرِي خَلاصٌ مِن هذا الأسرِ. لكن خبِّريني بربِّكِ كيفَ أُصلِحُ بَذرةَ الإرادةِ في داخلي، تلكَ التي اعْتَرَاها العَطَبُ ونَخَرَها الدودُ؟ كيفَ أَسْقِي نَبْتَ قلبي الميّتِ؟ أرجوكِ.. امنحيني أملًا صادقًا فقد سئمتُ آماليَ الخادعاتِ.

– أعرفُ جيّدًا هذه الديباجةَ التي طالما اعتدتُ سماعها منكِ تبرئةً لنفسكِ ظُلمًا وعُلوًّا، تظنّين أنَّكِ بذلك قد أدَّيتِ ما عليكِ، وسلكتِ كلَّ السُّبلَ، ثُمَّ عُدْتِ خاليةَ الوفاضِ، سائلةً "وكيفَ أعودُ؟"

 

إنَّك تعودينَ بشيءٍ يَقَرُ في قلبكِ، ألا وهو الصدقُ، عن ذاكَ فابحثي إنْ كنتِ حقًّا تبغينَ النجاةَ، لكن حَذَارِ أنْ يتراءَى لكِ الصدقُ كثمرةٍ حُلوةٍ شهيَّةٍ تتدلَّى لكِ طَوْعًا دونَ أن تبذُلي لها كلَّ غالٍ ونفيسٍ، إنَّكِ تعودينَ حينَ يشتعلُ وميضُ الإيمانِ في قلبكِ ليضيءَ عتماتِ سنين ألِفْتِ وَحْشَتَها.

• إنَّك تُحمِّلينَني ما لا أطيقُ بقسوتكِ هذه، لمَ تقتُلينَني بِسُمِّ كلماتكِ مُشْعِرةً إيَّاي بالسُّفولِ والبَهيميِّة؟ ألستُ إنسانًا يُخطِئُ ويُصِيبُ؟ حتَّى وإنْ كان شَرِّي قد غَلَبَ خَيْرِي فما زالَ داخلي يَئِنُّ، هذا البيتُ الخَرِبُ الذي يَسْكُنُني وأسكنُهُ يؤرِّقُني، وما دامَ هذا الذي بينَ جَنْبَيْ لا يَستلِذُّ لَهْوَ دُنياي أفلا يُرجى منه خيرٌ ولو بعدَ حينٍ؟

الصبرُ.. هو مَدَارُ الأمرِ وعَصَبُ الحياةِ، فما حياتُنا سوى رحلةٍ مِلْؤها المشقَّةُ والكَبَدُ اللامُنتهي، يتخلَّلُها نسيمُ ريحٍ عليل يهبُّ مِن آنٍ إلى آخرَ كي تلتقطي معه أنفاسَكِ مُكْمِلَةً الطريقَ

– أرأيتِ يا نَفْسُ سقيمًا على شفا الموتِ، وعِلَّتُه هي قلبُه، ولا رجاءَ مِن شفائه سوى بإصلاحِ هذه المُضْغُةِ، أتُراكِ تُعلِّلينَهُ بحياةٍ طيِّبةٍ وهو يتلوَّى مِن خواءِ رُوحِه؟ أتُراكِ ترسمينَ له لوحةً ملوَّنةً تُضلِّلينَهُ بها عن سوادٍ ملأَ جوانحَهُ؟ أتُراكِ تُوهِمينَهُ أنَّه سيعيشُ أمدًا بعيدًا وهو يدنو من أَجَلِه شيئًا فشيئًا؟

فهكذا أنتِ! إنَّكِ تسيرينَ إلى حتْفكِ، ومِن حقِّكِ عليَّ ألّا أسوقكِ إلى حفرةٍ مِن نارٍ، بل أن أدعوكِ إلى منزلٍ من نُورٍ يَصعدُ بكِ إلى الدرجاتِ العُلا. نعم، أقسو عليكِ كما يقسو مُحِبٌّ يخشى على نفسه الهلاكَ، أقسو كي لا تَعَضِّينَ أصابعَ الندمِ حينَ يفوتُ الأوان. لا يعني هذا الكمالَ ولا المثاليةَ، ولا يعني أنْ تَتَنَصَّلِي مِن بَشَرِيَّتكِ التي تُحتِّمُ وقوعَ الخطأِ، بل أنْ تبحثِي عن معنى الحياةِ الحقِّ.

• فماذا عساي أنْ أفعلَ حينَ يَغْلِبُني ضَعْفِي، وأَنْهَزِم لِيَأْسِي، وأَرْكَنُ إلى راحةٍ زائفةٍ تُشْقِيني؟ دُلِّيني.. أَلَا هِمَّةٌ تُبَاعُ فأشتريها لتَقِيني نارَ السَّمُومِ؟

– أتعلمينَ ما ينقُصُكِ؟ إنَّه الصبرُ، ذا هو مَدَارُ الأمرِ وعَصَبُ الحياةِ، فما حياتُنا سوى رحلةٍ مِلْؤها المشقَّةُ والكَبَدُ اللامُنتهي، يتخلَّلُها نسيمُ ريحٍ عليل يهبُّ مِن آنٍ إلى آخرَ كي تلتقطي معه أنفاسَكِ مُكْمِلَةً الطريقَ، طريقُكِ الذي تختارينَه واعيةً بكاملِ إرادتكِ، واضعةً نُصْبَ عينيكِ ما تَصْبِينَ إليه، ومُحْتَمِلَةً في سبيله ما يعترضُكِ مِن أذًى، حينها يهونُ كلُّ صعبٍ، وتذوقين لذَّةَ التعبِ. وعزاؤنا أنَّ الراحةَ المُطلقةَ هناكَ حيثُ لا نَصَبَ ولا وَصَبَ، نُؤمِّلُها في رحمةِ اللهِ في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقتدرٍ. أمّا أنْ تَرْكَني إلى كسلٍ شيطانيٍّ يُؤجّجُ غفلتَكِ ويجعلُ بينَكِ وبينَ سبيلِ اللهِ سدًّا؛ فهذا لَعَمْري هو الشقاءُ الحقُّ، وهو الخسرانُ المُبينُ.

• آه! لقد سئمتُ حياتي، وضاقتْ بي السبل، وأَعْياني الدَوْرُ في حلقاتٍ مُفْرَغَةٍ لا طائلَ منها سوى أنّي أتقلّبُ في التيهِ وأصطلي بجحيمِ اللاجدوى.

– اسمعي عنِّي، عليكِ باللهِ وحدَهُ، هو حَسْبُكِ -جلَّ في عُلاه- وكلُّ ما عَدَاهُ عَدَمٌ.

دَعِي عنكِ جَوْبَ منافي الضلالِ؛ فرِوَاؤكِ على أعتابِهِ، وها أنتِ قد عِشْتِ الضنْكَ سنينَ عددًا، فعودي؛ تَعُدْ لكِ الحياةُ!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.