شعار قسم مدونات

معاركُ القُلوبْ

blogs تأمل

نخوض يوميًّا آلاف المعارك والحروب، نسمع وقع ضجيجها يتردد بقوة داخل قلوبنا، نحاول الهرب أحيانًا فيعلو الضجيج أكثر كي يشعرنا وينبّهنا أنّ الحرب لا تزال قائمة ولا مجال لهدنة سلام توقف نزف الأفكار المفرط وآلامه الشديدة. نخفي الضجيج الذي يستنزفنا بابتسامة عابرة نرسمها على وجهنا كلّما تلاقت عيوننا مع أحدهم لنوهمه أنّ كلّ شيء لا يزال على ما يرام عندما يسألنا عن أحوالنا.

ننهي معاركنا أحيانًا بالإصلاح ما بين عقلنا وقلبنا ونظنّ أن حياتنا قد غدت ورديّة أخيرًا، ثم فجأة يقحمنا أحدهما بمعارك جديدة طاحنة ومباغتة فيتدخل الآخر بعدائية محاولًا إصلاح الموقف وإنهاء الفوضى، فيعود التضارب من جديد ويخلّف خليطًا من المشاعر لا يمكن أن يفهم والكثير الكثير من الشتات.

أراهن على أنّ بعض الأماكن والأوقات تثير شرودنا وعواطفنا بشدّة، كزرقة البحر وهدوء الليل، حتّى اهتزازات الحافلة وأجواؤها لها قدرة عجيبة على استرجاع كل المشاعر والعواطف التي خلّفتها معاركنا ودفنّاها حيّة داخلنا لنسكّن الألم. في الحافلة يكون عقلي شاردًا يرسم أمنياته وأحلامه على زجاج النافذة ويتخيلّها محققة فينتشي من مجردّ الخيال، ثم يصحو مرّة أخرى ويعلو صخبٌ جديد.

عيون الفتاة الجالسة بجانبي مليئة بالحكايا، حكايا لا أعلم تفاصيلها لكنني أحاول أن أرسم شخوصها وأحداثها بمخيلتي، ربّما تشعر بشوق مفرط تجاه أحدهم فتشرد لترسم طيفه أمام عينيها
عيون الفتاة الجالسة بجانبي مليئة بالحكايا، حكايا لا أعلم تفاصيلها لكنني أحاول أن أرسم شخوصها وأحداثها بمخيلتي، ربّما تشعر بشوق مفرط تجاه أحدهم فتشرد لترسم طيفه أمام عينيها
 

لست وحدي من يخوض معارك في هذه الدنيا لذلك أحبّ أن أطيل النظر في وجوه العابرين، ترى ما هي أسرارهم وما الذي يسكنهم، وفي أي عالم يبحرون الآن؟!

عيون تلك الفتاة الجالسة إلى جانبي مليئة بالحكايا، حكايا لا أعلم تفاصيلها لكنني أحاول أن أرسم شخوصها وأحداثها في مخيلتي، ربّما تشعر بشوق مفرط تجاه أحدهم فتشرد لترسم طيفه أمام عينيها وتخفف من حدة الشوق، أو ربما يشتعل في قلبها فتيل من الحب وهي لا تدري ما الذي سيؤول إليه هذا الاشتعال، أيحرقها تدريجيًّا إلى أن يجعل روحها كتلة من الرماد، أم ينير قلبها فيجعله مضيئًا باسما.. من يدري؟!

ذلك الشاب الجالس على الجهة الأخرى، في صمته الكثير من البوح وفي سكونه الكثير من التخبط، ربّما هو لاجئ مبعدٌ قسرًا عن وطنه ويعاني من مرارة الغربة وجراحها فيطيل تأمله في الطريق علّه يجد وطنه في غيمة ما، أو على غصن شجرة ما أو يجد رائحة بلاده تهبّ مع النسيم العابر الذي يداعب وجهه كل لحظة فتحمل معها الكثير من الذكريات التي لا تنسى.

خض معاركك بهدوء، قاومها برزانة وذكاء، ولا تسخّف من معارك أحدهم مهما كانت، فالقلوب فيها ما يكفيها

أمّا تلك المرأة التي تقود سيارتها الفارهة بجانب حافلتنا شاردة أيضًا ربّما ترسم في مخيلتها صورًا لوجوه صغيرة تحمل ملامحها ،و تتخيل أيادٍ ناعمة تعانق يديها، أو ربّما تسمع صوت ضحكات أطفال في رأسها قد حُرمت منها على أرض الواقع، ربّما تتخيل نفسها أمًّا. 

قد لا تكون معاركنا متشابهة في تفاصيلها إلا أنها متشابهة في إيلامنا وتشتيت عقولنا، لكن لا بأس بالمزيد من الاشتعال، فلعلّ ذلك الشيء الذي يدور في رأسك ويقلقه يكون سبب طمأنينتك يومًا ما، لا عليك، فكلّنا نحارب ونقاوم ألف فكرة وألف شعور كلّ يوم، كلّنا نتخبط بين الفينة والأخرى، نحاول أن نصل إلى السلام الداخلي والراحة.

خض معاركك بهدوء، قاومها برزانة وذكاء، ولا تسخّف من معارك أحدهم مهما كانت، فالقلوب فيها ما يكفيها، وتذكر أنّ كلّ شيء زائل، وكلّ شيء له نهاية تمامًا كما له بداية، ادع الله أن يرزقك الحكمة في مواجهة دوّامات الأفكار التي تجتاح روحك كلّ فترة، اطلب منه أن يرزقك النصر على شتات روحك وضياعها وأن يمنّ عليك بخروجك من معاركك بسلام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان