حينما كنت صغيرة كنت أريد أن أكبر سريعاً، كنت أريد التخرج بسرعة كبيرة وكنت أتسابق مع مَن في مثل سني؛ لكي أنهي مرحلة الدراسة في المدرسة ثم الجامعة، ثم أردت أن أواصل دراستي فواصلت وتفوقت فواصلت، فخسرت من الأشياء والأشخاص قدراً أكبر مما يعادل كسبي على ما حصلت، خسرت الحب للأشياء العظيمة، تسلقت إلى الأعلى، ونسيت أن ألتفتُّ إلى الأشياء الجميلة التي اعترضت طريقي فقاومتها وتركت نفسي تحارب من أجل المزيد من العلم والمال والغربة.. تركت نفسي تغوص في الأفق بحثاً عن المزيد، وانتظار الفرص الأمثل لانتهازها، ولم أنتهز من الحياة سوى الفرص البعيدة، وتركت كل قريب وكل فريد وكل صديق.
لا أعرف لماذا، لماذا نفعل كل ما نفعل؟ ولماذا ننهي أشياءنا ومراحلنا الجميلة بسرعة؟ لماذا تسابقنا طوال الوقت واستعجلنا في إنهاء فترة طفولتنا وشبابنا؟ لِم لَم نُعطَ فرصاً كثيرة؟ لِمَ أنهينا الكثير من الأشياء في بداياتها ولم نعطها حق المحاولة فالمحاولة؟
في شارع المواصلات في مدينة شتوتغورت الألمانية بالتحديد، أجلس على الكرسي الذي يفصل القطار عن الباص السريع، أحاول التقاط أنفاسي واستيعاب فكرة توهاني أو إيجاد شخص يجيد التحدث بالإنجليزية، عبثاً لاحت محاولاتي، التفتُّ حولي وإذا بي في وسط حشود من البشر ينتظرون ثم يُهرعون ويجرون في محاولة منهم لإدراك القطارات والحافلات ويرحلون، قاعات مليئة بالمقاعد، أصوات أرجل المارة واهتزاز أرضية الأرصفة يوحشان المكان، وحدها الشمس تشير إليّ من السماء وترمقني بحرارة، تحاول إذابتي، وأنا أحاول أن أستجذب اهتمام المارة بصوت جبان، "هل تستطيع مساعدتي؟" ولا ينظر إليَّ أحد، يرمقني الجميع بنظرات مستهزئة، يمرُّ الجميع محاولاً تفادِيَّ، وتفادي إلحاحاتي الصبورة، ويبقى صوتي الوحيد القابع في المكان، وبعد أن أرهقت نفسي بالانتظار، رحت انتظر.
في ردهة المطار، مسافرون ومنتظرون، كلاهما يجتمعان في ذات المكان، في بنايات متتالية ومتداخلة. تطير عيناي في المكان كمن يبحث عن تلك القصص وراء الانتظار وما بعد الانتظار في القبلات والاشتياقات والأعين المتراقصة، تدور عيناي وتحط على دموع الالتقاءات المتدفقة، وصراخات الأحبة، وانتظارات الحائرين، وصمت المحبين، تدور عيناي وتحط على الوجوه والرؤوس والملامح، وجوه متجعدة، وخطوط جبين عريضة، على الرأس بضع بياض متناثر أو غطاء رأس ملتف بقصاصات قماش هالكة. وتعبيرات كشِرة ترتسم على الوجوه المتعبة، متعبة من طول الانتظار.
حينما كنت صغيرة أردت أن أسافر إلى كل أنحاء العالم، أردت أن أسابق الزمن وأزور أكبر عدد من البلاد، اليوم لا أرى حكمة من هذا الأمر، هذه المرة الأولى التي أسافر، ولا أعرف كيف ظننت أن السفر أجمل من ذلك، اليوم أحلم بالعودة، هربنا خوفاً من صوتِ الرّصاص والبنادق، من الحرب والموت، لكننا هربنا إلى أشياء لم نكن ندركُ معالمَها، وكأننا فائض عن حاجة كل بلدان العالم، وكأنّ العالم ما عاد يريدُنا، يُطلق يديه ليصفَعنا، ويرمينا للبحار لتبتلعنا، أو في خيم لا تقينا حم الصيف ولا برد الشتاء، وننتظر، ننتظر أن ترأف بنا شعوب العالم، أو تربت على كتفنا قنوات التلفاز أو تواسينا صحف الأخبار ليرموا لنا فتات خبز ونعود للانتظار.
ألتفتُ إلى هاتفِي مئات المرات.. رغم السجل الممتلئ بالأسماء، رغم قائمة أصدقاء مكتظة لا مكالمات أو رسائل نصية، أنتظر.. أنتظر مكالمة الأبناء اللذين فضلوا الهجرة عن الظلم في الأوطان، أو بعض الأصحاب المتبقيين في الذاكرة، أو علَّ جاري يتفقدني أو حتى تلك القطط والعصافير التي أبقي لها مخلفات الطعام، علها تطالبني بقسمات الطعام أو تفتقدني، أنتظر من جمعتني بهم الحياة يوماً، علهم يذكرون أنني ما زلت حياً، أنتظر إخوتي اللذين قابلتني بهم الحياة في أجمل سنواتها فسابقناها فسبقتنا وتنازلت عنا فأدركتنا وتركتنا ننازع الوقت أو ينازعنا على رمق الشهقات، أنتظر الأحفاد، أنتظر الأحفاد من وراء الشاشات فأعود لأتصفح صفحتَي الفارغة على الفيسبوك أدخل صفحاتهم وأنتظر، أنتظر صورهم، لأقبل وجوههم.. وأنتظر..
جميعنا ينتظر.. ونبقى ننتظر من لحظة قدومنا إلى الحياة حتى لحظة خروجنا منها..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.