لم تكن فضيحة واينشتاين مفاجأة لأيّ كان. ولم تكن فضيحة بالمعنى الحقيقي للفضيحة. هي كانت مجرّد مواجهة: مواجهة الفاعل بفعله. غريبة النفس البشرية التي تعمل بمنظومة "إن لم تستحِ فافعل ما شئت"، وغريبة هي أكثر لأنّ الحياء لا يرتبط بمعاييرها الشخصية بل بنظرة المجتمع لها. بعبارة أخرى، طالما يغضّ مجتمع الإنسان الطرف عن أفعاله الشائنة، سيستمرّ في فعلها، ولا يتوقّف إلا عندما يشعر بالعار. ثم بعد مضيّ العار، غالباً سيعاود الكرّة، مع حرص أكبر على التواري عن أنظار المجتمع.
لكنّ مواجهة واينشتاين كانت أيضاً مواجهة المجتمع لنفسه، لسكوته طوال أعوام تسلّق فيها أمثال واينشتاين سلّم المجتمع المخملي حتّى باتوا يصافحون الرؤساء ويموّلون حملاتهم الانتخابية. الكلّ أبدى صدمته اليوم وتخلّى عمّن كان يصافحه بالأمس، وكأنّه لم يكن يعرف أبداً. لكن جميعنا نعرف المتحرّش وإن ادّعينا عكس ذلك: نلتقط بعض نظراته، نرصد مزحةً أو تعليقاً منه، نقع على تصرّف انزلق منه سهواً. جميعنا نعرف ونصمت. فالمتحرش في عالم الحيوانات هو كائنٌ مفترس، وكلّ من ليس حيواناً مفترساً هو إمّا فريسة أو طريدة وفي الحالتين المواجهة ليست خياراً.
صدمة واشنتاين كانت أكبر من توقيت المواجهة. طوال أعوامٍ مارس تحرّشه "بحرّية"، فكيف يُفضح اليوم في زمن بات فيه عرض الأجساد عادياً على مواقع التواصل الاجتماعي للوصول إلى "الشهرة"؟ وكيف يُشعرونه بالعار في زمن وصل فيه من فاخر بالتحرّش إلى رئاسة الولايات المتّحدة؟ ولكن لعلّ وصول التحرّش لأعلى المستويات هو ما أوصل الضحايا لمرحلة إدراك ضرورة فسخ عقد الصمت.
وهنا كانت المواجهة الأصعب: مواجهة المرأة لكلّ مخاوفها من فضح المتحرّش. بعد أعوامٍ من الصمت، خرجت كثيرات بهاشتاغ "وأنا أيضاً"، تحدّثن عبره عن بعض ما تعرّضن له هنّ أيضاً في كافة المجالات والمجتمعات وعلى مستويات مختلفة من التحرّش بدءاً من النظرات مروراً بالكلام وصولاً إلى الاغتصاب. كان عدد الشهادات مفاجئاً للرجال، فيما رأته النساء نقطة في بحر ما تتعرّضن له.
فما لم يُقل أكثر بكثير ممّا قيل، خصوصاً في مجتمعاتنا. ولا أعرف امرأة واحدة لم تتعرّض للتحرّش. فمن منّا لم تتعرّض على أقلّ تقدير لكلمة سمعتها تعليقاً على جسدها أثناء مرورها في مكانٍ ما. شخصياً كان عمري 12 عاماً، كنت في بداية تحوّلي من طفلة لامرأة، عند عبوري للرصيفين الذين يفصلان بيتي عن مدرستي سمعت تعليقاً من صبي في الثامنة من عمره وآخر من رجلٍ ستّيني. خجلت من نفسي لأعوام، حاولت أن أخفي لأعوام أي تغييرات سواء بالوزن الزائد أو بالملابس الفضفاضة أو بالعزلة. لكن جملة من هنا وغمزة من هناك كانت تتسلّل رغم كلّ جدران الحماية التي كنت أحاول بناءها.
كنا نستعدّ لنزول السوق كمن يستعدّ لخوض الحرب. كانت جدّتي تنهي تدريب تفادي الأيادي بدرس عميق عمق انفصام مجتمعاتنا "لا تعرن بالاً للكلام، المهم تفادي الأيادي، لكن في حال وقوعكنّ في فخّها، أسرعن الخطى وابتعدن دون فضح أنفسكنّ". لم أفهم يوماً لماذا علينا نحن النساء أن نخشى من فضح المتحرّش. كيف أقنعنا المجتمع أن التعرّض للتحرّش هو فضيحة لأنفسنا وليس للمتحرّش. كما لو أنّك تقول لميّت أن يصمت ويخفي دماءه كي لا يفضح نفسه بأنّه قـُتل، دون أي مسؤولية على القاتل.
نجد دائماً مبرراً للمعتدي ولا نجد عذراً للضحية. لباسها، شعرها، الكحل في عينها، ضحكتها، جرأتها، ضعفها، قوتها، ممشاها، وغيرها وغيرها. اللوم عليها هي دائماً، فهي حتماً المسؤولة عن إيقاظ المفترس. وكأنّها بمجرّد خروجها من غرفتها دخلت كهف دببٍ في السبات الشتوي، وحذار من أي خطوة توقظ أحدهم جائعاً. يشاركون، نساءً ورجالاً، في جريمة التطبيع مع التحرّش منذ قرون.
هي الفتنة بنصف عقل، وهو الحكمة بكمال عقله. ومع ذلك هو الذي يتحوّل لحيوان لا يسيطر على شهواته. لماذا إذاً ينجح الكثير من الرجال في غضّ الطرف وفي الالتزام بحدودهم مهما احتكّوا بالنساء؟ لماذا نخشى منها هي على الرجل، ولا نخشى عليها من المتحرّش؟ لماذا نرفض أن نتوقّف دقيقة نعدّد المتحرّشين حولنا؟ لماذا ندّعي أنّ مجتمعاتنا خالية من هذه الظواهر وأرصفتنا على أقلّ تقدير شاهدة بعكس ذلك؟
تردّدت كثيراً قبل أن أشارك في حملة "أنا أيضاً"، فالكثير من الردود ستأتي لتتّهمني بالمبالغة وبأنّني أتجنّى على رجالنا، وبعضها يتّهمني طبعاً بالبحث عن التحرّش. ثم فتحت الرسائل الخاصة التي تردني على حساباتي المختلفة في مواقع التواصل الاجتماعي. بعض من يدّعي المثالية في تعليقاته العامة، أراه يرسل لي غمزة على الخاص، أو غزل أو تحرّش كلامي من نوع أكثر بذاءة. وفصله هذا بين ما يُظهره على العام وبين ما يرسله على الخاص، خير دليلٍ على أن واينشتاين ليس حالة هوليوودية شاذة. فكم من واينشتاين في مجتمعاتنا آن أوان مواجهتهم؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.