يعتبر المفكر ياسين أن الديمقراطية تسخر من الدين وفي الأصل هي استعباد وأنانية، ومنه يهاجم المثقفين الغربيين (ماذا وراء الكلمات والعبارات المشتركة بين المثقفين وكل ما تفتقت به عبقرية تشومسكي وبارت وبرنارد بادي إلا السخرية بالإيمان بالتندر بالغيب والإشادة بالديمقراطية اللائكية المقدسة) ص27.
غير أن الذي يزيد من تعميق أزمة المفهوم هو عودته للاعتراف بأن الديمقراطية أفضل من الاستبداد، وأن هناك تقاطع في رفض الاستبداد بين الديمقراطية والإسلام (نتفق معكم على أن الديمقراطية نظيفة خير من وسخ الاستبداد) ص69، وبهذا فهو يقبل بتجنيس أو بأسلمة الديمقراطية أو القبول بديمقراطية مشروطة ومجزأة (إدخال الديمقراطية إلى بلادنا لا تكون بلائكيتها اللازمة لها لزوم الظل لشخص) ص70. الواضح أن المفكر ياسين سقط في تناقض فج فهو يعتبرها محوا لتاريخنا وهويتنا وفي نفس الوقت يقبل بها مجزأة، أي يقبل بتغريب النظام السياسي وهذا هو الأمر الذي انتقد فيه برنارد بادي صاحب "الدولة المستورد تغريب النظام السياسي".
هذا العوم المفاهيمي الذي استطرد على المفكر ياسين، سيحاول تنظيمه فيما بعد وإعطائه ثنائية أخرى بين "الشورى والديمقراطية".. فجعل الشورى منظومة في الثقافة الإسلامية مقابلة لديمقراطية بل ذهب إلى حد تجريد قيمها وتلبيسها على الشورى لأن الأصل فيها أنها مرتبطة باللائكية وبفصل الدين عن السياسة وهو ما يوازيه في فكر ياسين؛ فصل الإسلام عن الحكم.
وما يزيد من حدة القطيعة بين المفهومين هو تحديد القيمة لكل منهما، فالديمقراطية صنع إنساني وعمل وضعي منفصل عن أي أصل ديني فهي تتحول إلى عبودية، أما الشورى تتأسس على الوجدان الجمعي لجماعة المسلمين لتحقيق غاية الاستخلاف في الأرض فهي تأخذ بعدا دينيا يجعل منها عبادة (ونحن نسميها شورى ونسميها دينا قيما، ونسمي حركتنا اقتحاما وقومة) ص22، وشتان بين العبادة لله والعبودية للإنسان.
إن هذا التناقض غير القابل للتوفيق؛ هو الذي يفسر لنا استبعاد كل المفاهيم ذات الصلة بالديمقراطية في أدبيات ياسين منهجا وقيمة كالشعب، الانتخابات، المواطن، المجتمع المدني، حقوق الإنسان.. ليوظف في المقابل مفاهيم تراثية وأخرى من نسج تفكيره كما هو الحال جماعة المسلمين، العبد، التدافع، الجهاد، القومة، الاقتحام، الجبر…
من البيّن إذا أن مسألة الحكم في التقابل القيمي بين المفهومين عند المفكر ياسين مرتبطة شرطا بالعامل الديني وسيلةً وغاية، لذلك كان مناص تحقيق الحاكمية لله إحياءً لخلافة على منهاج النبوة. وبهذا التقابل يجعل الديمقراطية بشكل غير مباشر دينأ قائمأ موازيا يدافع ويهدد ويغزو، ثم بحصره للحكم في الشورى يجعل للإسلام نظرية حكم جاهزة ملازمة لجماعة المسلمين حسب تعبيره في كل زمان وحين.
غير أنه لو كان للإسلام نظرية حكم لانتهى بانتهائها ولَسقط الدين القيِّم بسقوط نموذج الخلافة، كما انتهت الشيوعية بفشلها في الحكم وانتهت كل النظم الشمولية بتقادمها الزمني، بل إن الإسلام نظّم الحكم بمبادئ عامة مؤطرة لتدبير السلطة منها العدل والشورى والمساواة وهي متجددة بتقدمية الحركة الاجتماعية في التاريخ لملائمة النظام الأنسب لزمان المناسب. ويمكن اعتبار الديمقراطية من أرقى ممكنات الحكم في الدولة الحديثة التي توصل إليها الفكر الإنساني بما تسهٍّل في تدبير الاختلاف وتداول السلطة.
ورغم فرض الديمقراطية نفسها كنظام وحدوي عالمي إذ دفع البعض إلى اعتبارها نهاية التطور الإيديولوجي السياسي للبشرية كما هو الحال في أطروحة نهاية التاريخ مع فوكوياما، إلا أنها تبقى وحَدة نسبية أبانت على أعطاب عديدة توقف تحقيق العدل بين الناس وبذلك فهي محطة قابلة للنفي في صيرورة التاريخ لصالح منظومة أكثر تقدمية.
رحم الله المفكر عبد السلام ياسين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.