شعار قسم مدونات

مسيرة اليوم الأول إلى المدرسة!

مدونات - مدرسة طالب طلاب

لا يزال الظلام ينشر أصفاده على ربوعي، يخايل عيني يحجبها عن بلوغ مأمنها، مثير للقلق، ينادي في أعماقي على كل ما مر وسيمر من ألم، يشتمله ثم يلقي به جمعًا في حيز الوجود، كل المشاهدات عادت حية، مسيرة اليوم الأول إلى المدرسة، كلب هزيل في طريقي يجبرني أن أعود مستسلما أو أواجه، كان من الصعب عليّ كطفل صغير حينها أن أخُيّر فضلا عن أن أختار، فكرت قليلًا وسلكت طريقًا آخر.
 
رباط حذائي الذي انفك ولا علم لي بعقده، حيرة التفت حولي وأخذت تنخر في ذاتي، لا حل لي إلا أن أحاول، يدي المرتعشة ببرد الصباح وجثامة الموقف تستجمع أطراف الرباط لتوافقه في هيئته المعتادة، لكن لا أمل فالخوف من أن تنعقد الصلة حد التعقيد تجبرني أن أستسلم.
 
أستمر في المرور إلى مدرستي متعثرًا في حذائي، لا بأس فها هي تقترب وأنا أقترب، على جانب الطريق بائعة فلافل ترتص حول حاجياتها، الرائحة المغرية مضافا إليها وقع الصباح يجعلاني نهما لأشتري لكن لا جرأة، ها قد ظهرت من بعيد جموع الأطفال المقبلين على أيامهم الدراسية الأولى وأنا ببطء أقترب لأنضم.
 
عيني تبرق بالعجب والخوف والترقب، عالم جديد لا علم لي بأي من تفاصيله، حقيبتي على ظهري فارغة إلا من بعض الطعام وكراس وقلم وضعوه لي، جموع الأطفال على باب المدرسة في انتظار الإذن بالدخول، لا أعرف أحدًا ولا أحد يعرفني، أميل إلى إحدى الحوائط مستندًا، يقترب مني أحدهم، "اسمك إيه: أحمد وأنا محمود.." لست كبيرًا لأرحب لا علمي لي بعد بترهات الانتظام في حديث ما مبدئي، "رباط جزمتك مفكوك".. بحزن أنظر إلي رباطي وأقول "مبعرفش أربطه"، "أنا بعرف على فكرة استنى هعملهولك"، متطوعًا يجثو محمود أرضًا مساعدًا لي في ربط حذائي، أشكره بابتسامة وفرحة، وفي الجوار تخفو قليلا في قلبي دقاته المتسارعة.
 

يدخل أحدهم حاملًا في يده عصا، الأصوات تخفت حتى تصير همسًا، الأستاذ الأستاذ، مشدوهًا أنظر إلى العصا، الخوف في قلبي يتضاعف، أنا هنا حتمًا في المكان الخاطئ، لماذا يُلقي بنا أهلونا إلى تلك الأماكن المرعبة؟!

مدرسة قديمة عتيقة تتألف من ثلاثة أدوار، على أطرافها تتزاحم البيوت غير تاركة لها ألبتة أي فرصة للتنفس، لا فناء لا سعة لا أي شيء، علمت فيما بعد أن هذا ملحق صغير للسنوات التمهيدية وأن المدرسة الرئيسة قابعة في منتأى آخر بعيد عن الزحام، بين جموع المقبلين على الفصول أتزاحم وأسير بقوة دفعهم، الخوف يتملكني أستشعر الغربة أريد بيتي لكن لا إجابة، فصلي الأول يرحب بي يدعوني لأنتظم في إحدى مقاعده لكنني عن ذلك عاجز، أقف متسمرًا الجميع من حولي يتقاتل على الجلوس في المقاعد الأولى وأنا غير آبه لأي شيء سوى الخوف والانبهار الذي يسري في أوصالي، أحدهم يجذبني من يدي بشدة "تعالى يا أحمد اقعد هنا بسرعة" أجلس ثم أنظر لمن جذبني فإذا به محمود أبتسم ابتسامة الغريق الذي وجد القشة، وفي الجوار تخفو قليلا في قلبي دقاته المتسارعة.
 
لم أكن أدري أن ذلك الباب الصغير الذي أوردني ها هنا هو باب لكل هذه التفاصيل الضاجة بنفسها. فوضى عارمة لا قدرة لي على الامتزاج بها أو التماهي معها، لا لأنني منظم ولكن لطبيعة حياتي التي كانت قبل اليوم هادئة، في ظلال الفوضى أبحث عن أي وجه أعرفه فلا أجد، أبحث عن أي ملمح من ملامحي المعتادة ولا أثر، أتدثر بالخوف وأميل إلى الاستسلام وأنتظر جديدا ما يؤنسني ولو قليلا، لكن يبدو أنها رحلة لا نهاية لها.
 
الفصل غارق في جلبة وأصوات لا قدرة لأحد على تحملها، الباب يُفتح ليدخل أحدهم حاملًا في يده عصا، الأصوات تخفت وتخفت حتى تصير همسًا، الأستاذ الأستاذ، مشدوهًا أنظر إلى العصا، الخوف في قلبي يتضاعف، أنا هنا حتمًا في المكان الخاطئ، لماذا يُلقي بنا أهلونا إلى تلك الأماكن المرعبة، العصا فجأة تهبط على أحدهم مصيبة إياه فقد كان همسه مرتفعًا بعض الشيء، أريد أن أسمع صوتًا، التالي سيكون عبرة لمن لا يعتبر؛ هكذا تحدث الأستاذ، وأنا في الجوار أتضاءل وأتضاءل وفي قلبي تتصاعد الدقات، وأقول في نفسي جميعنا العبرة يا سيدي جميعنا العبرة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.