شعار قسم مدونات

جيش أبرهة الإعلامي!

blogs الإعلام
نعرف جميعًا قصة أبرهة ومحاولته هدم الكعبة، ونعرف ضمن ما نعرفه في القصة، صدامه مع جدِّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- عبد المطلب، كيف خرج أهل مكة منها وصعدوا إلى هضبة غير بعيدة لمتابعة المشهد وهم يرددون خوفًا وتوجسًا: "إن للبيت ربًّا يحميه"! وكيف انتهى المشهد بالطير الأبابيل. ولا نعرف ضمن ما لا نعرفه، أن أبرهة وبطريقة ما لا يزال موجودًا! بل هو يوجد باستمرار لكل عصر أبرهة خاصته! فماذا لو أعاد أبرهة الكَرَّة، وأعدَّ جيشه وجاء قاصدًا هدم البيت، هل ستصعد إلى هضبة قريبة وتردد: "إن للبيت ربٌّ يحميه"! آه صحيح، ماذا لو كنت أنت هو ربُّ البيت؟!
كثيرًا ما ثرثنا عن الغزو الثقافي وعن المغالطات والتضليل الإعلاميين! كثيرًا ما ندبنا حظنا! كثيرًا ما دعونا خلف خطباء الجمعة: "اللهم عليك بالفاسدين المفسدين، والضالين المضلين"، وكثيرًا ما دعونا بنشوة! ونحن نتابع من على الهضبة دومًا صراع العمالقة! مرددين: "اللهم أهلك الفاسدين بالفاسدين، وأخرجنا من بينهم سالمين"! وكثيرًا ما حدث العكس! لم تنزل لا "طير الأبابيل" ولا "حجارة من سجيل"! فما السبب! ما الخلل! أقصد الخلل في فهمنا طبعًا، الخلل في تفاعلنا مع شيء آخر أنزل، ولم يكن بالطير الأبابيل.

(وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) الأنفال (60) قد يتبادر إلى أذهانكم فور استدلالي بهذه الآية أن مقصودي منها هو مجابهة جيش أبرهة الإعلامي بوسائل وأساليب وأسلحة تكافئ أسلحته ووسائله وأساليبه كمًّا ونوعًا، مع أن ذلك ضروري جدًا في مرحلة تالية! ولكني أستدل بها من أجل معنى آخر، لأنه وفي هكذا مواجهات لا أعتقد أن الحل يكمن في التحضير لردات فعل (عشوائية) لأفعالهم (المدروسة) والاعتقاد بأننا نحسن بذلك صنعًا، لا لشيء سوى لأن إمكاناتنا المادية متكافئة!

من يعتبر أسلمة الإعلام هو إعلام بديل لا يختلف كثيرًا عمن يحاول إقناعنا بأن ترجمة المسلسلات التركية إلى اللهجة السورية تجعل من هذه المسلسلات عائلية!
من يعتبر أسلمة الإعلام هو إعلام بديل لا يختلف كثيرًا عمن يحاول إقناعنا بأن ترجمة المسلسلات التركية إلى اللهجة السورية تجعل من هذه المسلسلات عائلية!

طيب! بدءًا لنفرض أن كل ما يحدث لنا هو مؤامرة! بحكم أننا نحب هذه الشماعة كثيرًا! ولنسأل أنفسنا: هل التآمر علينا هو سبب ضعفنا، أم أن ضعفنا هو سبب التآمر علينا؟! شخصيًّا، أميل إلى الاحتمال الثاني، طبعًا أقصد هنا الضعف في مفهومه المعنوي –إن صح التعبير– (لأنني لا أعتقد أن ضعفنا هو ضعف إمكانات، على الأقل بالدرجة الأولى)، وأرى أن الآية في هذا السياق تشير إلى القوة التي تغطي ذلك الضعف المعنوي إن صح هذا التعبير، مرة أخرى! فما طبيعة هذه القوة يا ترى؟

يذكر د. طه كوزي في كتابه "شروق وغروب" (أن مفهوم العدو في المنظومة الإعلامية لا ينطبق على من يحاول أن يقف سدًا أمام مصالحها الاقتصادية المادية فحسب، بل يكفي أن يكون الإنسان واعيًا بالنسق الذي تعمل به هذه المنظومة وبالوسائل التي توظفها، ويسعى أن يقاومها ولو منفردًا؛ فهذا كاف ليُعَدّ من ألد أعدائها).

هو الوعي إذن، أن تعرف أسباب الظاهرة وتتموقع وفقها كما يقول مالك بن نبي، أن تكون إنسانًا ناقدًا لا إنسانًا مستهلكًا للإعلام المهيمن، أن تتولد أفكارك وأفعالك وفق إيمانك ومبادئك لاوفق ما يقدمه المبرمجون ليطلبه لاحقًا المستمعون والمشاهدون، أن تمتلك المناعة والقدرة التحليلية لاكتشاف المغالطات المنطقية والتضليل الإعلاميين. فكيف يُصنع هذا الوعي؟ ومن أين تأتي تلك القوة؟ لو قلنا: مِنْ إعلام بديل! طيب، ماهي مميزاته؟!

على الأغلب انتهى زمن المعجزات الحسية، ورهاننا اليوم على معجزة أخرى، ليست أقل إعجازًا من الأولى، الوعي، صناعة الوعي!

(وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) الكهف (10)، لماذا هذه الآية بالذات؟ لأمرين اثنين!
الأول: (مِنْ أَمْرِنَا)، لا بد أن يأخذ هذا الإعلام البديل بعين الاعتبار خصوصية المجتمع المراد صناعة الوعي فيه، طبيعته، ظروفه وخصائصه، أن يكون نابعًا منه، خالصًا له. بمعنى أنه لن تنفع هذه المرة سياسة "أسلمة إعلام أبرهة" وتغليفه بغلاف (حلال) كما يفعل مع كل المنتجات الأخرى! أعتقد أن من يعتبر أسلمة الإعلام هو إعلام بديل لا يختلف كثيرًا عمن يحاول إقناعنا بأن ترجمة المسلسلات التركية إلى اللهجة السورية تجعل من هذه المسلسلات عائلية! باختصار نقول: (مِنْ أَمْرِنَا) وليس من أمرهم!

الثاني: (رَشَدًا)، فليس كل إعلام (مِنْ أَمْرِنَا) يعتبر إعلامًا بديلًا عن إعلام أبرهة، بل أحيانًا يكون إعلام أبرهة هو إعلام (مِنْ أَمْرِنَا)!

علَّق الإعلامي المصري معتز مطر على منظومة الإعلام في بلده قائلًا: "الناس اللي مصدقة أن البلاد تمشي علشان الإعلام بيقول كده. بيفكروني بالناس اللي مصدقة أن الأتراك بيتكلموا سوري علشان المسلسل مدبلج"!

إذن، هو "الإعلام البديل الراشد"، الذي يَنقُل المتلقي من مستهلك لكل ما يسمع ويرى ويقرأ، إلى ناقد لكل ما سبق من تفاصيل بقعة الضوء المراد منك التركيز عليها، إلى تحليل الصورة الشاملة، ومن التحيز قصرًا إلى التمييز بوعي. هو إعلامٌ بديلٌ راشد، يساهم في صنعه الجميع، ويساهم في صناعة وعي الجميع! كُلٌ من موقع، على ألا يكون موقعنا جميعًا فوق الهضبة القريبة، لأنه على الأغلب انتهى زمن المعجزات الحسية، ورهاننا اليوم على معجزة أخرى، ليست أقل إعجازًا من الأولى، الوعي، صناعة الوعي!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان