شعار قسم مدونات

نقض خطاب مروّجي الشذوذ

blogs المثلية الجنسية

بادئ ذي بدء، لعلّه ينبغي الإشارة إلى أنّ أنظمة القمع العربيّة، ليست أهلًا لتقويم منحرف، ولا محاسبة مخطئ، بل هي أولى بالتقويم والمحاسبة والمحاكمة، ورأيي في هذه المسألة لا أرضى أن يكون دعمًا لأي إجراء تتخذه حكومة قمعية تجاه أي فردٍ أو مجموعةٍ، بغير جرمٍ جنائيّ واضح، سواءً مؤيدي المثلية أو غيرهم.

 

إنّني لا أجدُ وصفًا غير الحُمق أصفُ به مؤيدي إجراءات حكومة ظالمة تجاه خصم مهما فعل، إذ إنه يعطي شرعيّةً مزيّفة لما فعلته سابقًا، ولما ستفعله مستقبلًا، وهذا آخرُ ما يحتاجُه معارضو الأنظمة الدكتاتورية.

 

تُعدّ مسألة الموقف من "المثلية الجنسية" من أكثر المسائل إثارة للجدل في العالم منذ عقود، وفي عالمنا العربيّ منذ سنين، تصاعد الخطابُ المؤيّد للشذوذ الجنسيّ في عصرنا كثيرًا، وصار الموقفُ منهم محلّ امتحانٍ يمتحنُ به مدّعو التحضّر غيرهم، ويحكمون على الإنسان كاملًا من خلاله!

 

لا شيء قطعيّ بالدراسات العلميّة تدّعي أنّ الجينات والهرمونات وحدها تجعلُ الإنسان شاذًّا، بل الأقربُ للدقة هي تجعله مؤهّلًا لذلك! ولا شيء يساعدُ باستكمال هذا التأهل مثل الترويج المبالغ فيه للعلاقات الشاذّة
لا شيء قطعيّ بالدراسات العلميّة تدّعي أنّ الجينات والهرمونات وحدها تجعلُ الإنسان شاذًّا، بل الأقربُ للدقة هي تجعله مؤهّلًا لذلك! ولا شيء يساعدُ باستكمال هذا التأهل مثل الترويج المبالغ فيه للعلاقات الشاذّة
 

في لقاء حواريّ على إحدى القنوات الأمريكية، سأل المذيع الشهير بصفاقته وعداوته للمسلمين "بيل ماهر"، الإعلامية الإيطالية من أصل فلسطيني "رولا جبريل" سؤالًا عجيبًا لا علاقة له بموضوع نقاشه، قال: "هل يمكنك أن تكون مثليًّا في غزة؟" فأجابت: "نعم"، فردّ ساخرًا: "وتبقى على قيد الحياة!". كان السؤال مقحمًا لأغراض الامتحان والإرهاب الفكريّ، يريد من خلاله الحكم على غزة كلها من خلاله، لا بل على بلاد المسلمين جميعًا. هذا الموقف شديد التكرار في النقاشات، تُقحم مسألة المثلية إقحامًا، ويُمتحن الناسُ فيها حتى يتمّ تصنيفهم!! ما هذا!!

 

تخيّلوا أن ثمة قاعدة عند السلفيين- وهم من هم- يقولون: لا يُمتحن الناسُ في عقائدهم! وبغضّ النظر عن التزام السلفيين بذلك من عدمه، لكنهم على الأقل يدينونه! بينما "المتحضرون" يفعلون! يا للسخرية!

 

المتديّن لا يُعاني كثيرًا في موقفه من الشذوذ، إيمانُه أراحه من دخول هذا الصراع، وهذه المقالة لا تناقشُ الأمر من ذلك المنظور، إذ أكثرُ مروجي الشذوذ، إن لم يكن كلّهم لا يعتبرُ الدين مرجعًا في مثل هذه الأشياء، لذلك فإنّ المقالة تناقشُ المسألة من منظورٍ دُنيويّ بحت.

 

إذا قرأت في التفاصيل الخاصة بموضوع الشذوذ، ستجدُ العوامل الوراثية والهرمونية جزءًا من الموضوع لا كلّه، وأنّ ثمة من حاول تصدير هذه العوامل لتضليل الناس 

اتّخذ كثيرٌ من مروّجي الشذوذ موقفه المناصر، لأسباب سياسية أيدولوجية، لها علاقة بصراعه مع تيارات بعينها، وكثيرٌ منهم أخذ موقفه تحت ضغط المزايدة النخبوية، أو تملّقًا لدوائر ثقافية بعينها، وغلّفوا ذلك كله بغلاف الحرية، وإيقاف المعاناة المأساوية للشواذّ جنسيًا، وتسلّحوا بسلاحٍ تصعبُ مواجهته: "الجينات والهرمونات"، يقولون: إن الشاذّ يولدُ شاذًّا، ولا يملكُ تغيير ذلك، فهل على الإنسان أن يناقض ما خُلق عليه! وأن يقضي حياته محاربًا لذاته!

 

الحقيقة أنّ هذا هو بعضُ الحقيقة! وأنّك إذا قرأت في التفاصيل، ستجدُ العوامل الوراثية والهرمونية جزءًا من الموضوع لا كلّه، وأنّ ثمة من حاول تصدير هذه العوامل لتضليل الناس، وتعجيزهم عن الجواب! والحقيقة أنّ للجينات مثلًا دورًا كبيرًا في حياتنا، نُخلق أنانيين مثلًا، ثمّ تهذّبنا الحياة وتربية أهالينا، بعضُنا يولدُ عنيفًا، وغيرُه يولدُ لطيفًا، وللجينات في كل هذا نصيب! ثمة دراسات نشرت عن جينات تتعلّق بالسلوك الإجراميّ، فهل يُقال: إنّهم وُلدوا مجرمين! ولا ذنب لهم!

 

لا شيء قطعيّ في الدراسات العلميّة تدّعي أنّ الجينات والهرمونات وحدها تجعلُ الإنسان شاذًّا، بل الأقربُ للدقة أن يقال: تجعله مؤهّلًا لذلك! ولا شيء يساعدُ على استكمال هذا التأهل مثل الترويج المبالغ فيه للعلاقات الشاذّة!

 

في هذه الدراسات ثمة ما يُسمّى "سُلّم كينسي"، يقول فيه: إنّ الناس ليسوا سواءً في مسألة "المغايرة والمثلية"، بل فيهم من هو "مغاير تمامًا"، و"مثليّ تمامًا"، وبينهما خمس درجات من الناس الذين جمعوا بدرجات بين شهوة الطرفين! ألا يُساهم الترويج للشذوذ في سحب مزيدٍ من هؤلاء المترددين بين الشهوتين، لاختيار شريك شاذّ بدلًا من علاقةٍ طبيعية!

 

ولعلّ قائلًا من هؤلاء يقول: ما المشكلة؟ فيما لو صار نصف الناس شُذّاذًا؟! ثمة مشكلات كثيرة! إنّ المجتمعات البشرية في العقود الأخيرة تقلُّ فيها رغبة تكوين الأسرة، يتهرّبُ الناس من العلاقات المسئولة، من إنجاب الأطفال ورفد المجتمعات بالدم الجديد، بأجيال المستقبل وشباب الغد، تُعاني كثيرٌ من الدول المتحضرة من شيخوخة المجتمع، يحاولون حلّ ذلك بالتشجيع على الإنجاب، واستقبال اللاجئين ذوي الأسر المكتظة بالأطفال، بينما يأتي الترويج للشذوذ جُهدًا مضادًّا معطّلا، مساهمًا في تفاقم المشكلة، ومزيد نكبةٍ للمجتمعات.

 

مروّجو الشذوذ المحترمون يريدون أن يحرموا عن سبق إصرارٍ وترصد آلافَ الأطفال، بل قُل الملايين ربما مستقبلًا، من أبٍ فعليّ، وأمٍ حقيقية!
مروّجو الشذوذ المحترمون يريدون أن يحرموا عن سبق إصرارٍ وترصد آلافَ الأطفال، بل قُل الملايين ربما مستقبلًا، من أبٍ فعليّ، وأمٍ حقيقية!
 

ثمّ إنّ هؤلاء القوم، صرعونا بمبدأ الحرية الشخصية، وأذلّونا بالمثل السائر: "أنت حرّ ما لم تضرّ"، غير أنّهم أصرّوا على الإضرار، إذ لم يتوقفوا عند السماح لمن شذّ بممارسة شذوذه، بل "ناضلوا" من أجل منح الشواذّ حقّ تكوين أسرةٍ ذات أطفال! يا حنانيكم! هذا الطفلُ الذين سينجبه أحد الذكرين من رحمٍ مستأجر، أو يتبناه الرجلان الشاذان تبنيًّا، فيأتي إلى الحياة كي لا يجد أمًّا تضمّه إلى صدرها! أليس مظلومًا! ألم تضرّوه!

 

وكذلك الطفل الذي تنجبه إحدى شاذّتين من نطفة متبرّع بها، أليس من حقه أن يجد أبًا في انتظاره! إنّ من حقّ كل طفلٍ، في غير الظروف الاستثنائية، أن يلتقم ثدي أمّه، وأن يتعلّق بكتف أبيه، وأن ينتف بيديه شعر صدره! وليس من حقّ أحدٍ أن يحرمه ذلك من أجل شهوةٍ أو نشوة!

 

أذكرُ دومًا عبارة للروائية الشهيرة منى سيمبسون، شقيقة ستيف جوبز مؤسس آبل، تتحدّثُ عن تخلي أبيها عنها وعن أمّها، وعن حلمها بطيف الأب! قالت: طيلة حياتي، عشتُ منتظرةً رجلًا أحبّه ويحبّني، لعقودٍ، ظننتُ أنّ ذلك الرجل ينبغي أن يكون والدي. لكنني حين بلغتُ الخامسة والعشرين، لقيتُ ذلك الرجل! لقد كان أخي!

 

كان هذا جزءًا من كلامها المفعم بالعاطفة الجياشة، والافتقاد الصادق للرجل/الوالد، والذي لم يعوّضه غيرُ الأخ، إن كان قد عوّضه فعلًا، ومروّجو الشذوذ المحترمون يريدون أن يحرموا عن سبق إصرارٍ وترصد آلافَ الأطفال، بل قُل الملايين ربما مستقبلًا، من أبٍ فعليّ، وأمٍ حقيقية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.