حين شاهدتُ فيلم "شيخ جاكسون" خرجت مندهشة؛ إذ قدّم الفيلم صورة حسنة عن "الرجل السّلفي" الذي قد لا يودّه الكثير في المجتمع المصري. وعلى عكس ما ذهب إليه أحمد سالم في تدوينته الأخيرة "شيخ جاكسون" حين رأى أنّ الفيلم يخاطب شرائح مجتمعية واسعة لتنفيرهم من نمط حياة السلفيين خصوصًا والإسلاميّين عمومًا، رأيتُ أنّ الفيلم في الحقيقة قد جمّل صورة السلفي في المجتمع المصري، وهو ضدّ ما ذهب إليه أحمد سالم.
وزعمي أنّ الفيلم قد جمّل صورة الرجل السلفي دفعني للتساؤل: إذا كان الفيلم بالفعل يجمّل صورة السلفي، فكيف أفلت "شيخ جاكسون" من مقصّ الرقيب؟ هذا على اعتبار أنّ السلفي ينتمي للتصنيف الجامع: "الإسلاميّون" فهل من مصلحة الدولة المصرية التي تتبعها مؤسسة الرقابة على المصنفات الفنية أن تسمح بعرض فيلم يجمّل صورة السلفيين؟ في حين، على سبيل المثال، تعارض المصنفات الفنية عرض فيلم "آخر أيّام المدينة" الذي صوّر احتجاجات حقيقية في الشارع قبل الثورة.
في الحقيقة، فإنّ "شيخ جاكسون" لا يجمّل صورة الإسلاميين، بل ولا يجمّل صورة السلفيين. إنّه يجمّل صورة واحدة من السلفية، وهي ما استحدث تسميته بالسلفية العلمية، وهي نوع من السلفية الوديعة التي قصد الفيلم إظهارها على هذه الصورة للترويج لها. أو هي على شاكلة "سلفية حزب النور" المعروفة بمواقفها المتوائمة مع السلطة منذ صيف 2013. فالفيلم فيه اختزال إذن كما ذهب أحمد سالم في تدوينته، ولكنّه اختزال، في نظري، مقصود، ويخدم هدف الفيلم.
لنرَ إذن كيف رسم كاتب الفيلم صورة السلفي "الوديع"!
الحكاية من البداية
بدايةً، يستمدّ مؤلفي الفيلم عمرو سلامة وعمر خالد، قصة الفيلم من الواقع المصري المعيش في انعطاف سينمائي يعترف، ربما لأول مرة، بوجود فئات مؤثرة في المجتمع مثل السلفيين. يريد الفيلم أن يقول إنّ السلفيين لم يهبطوا من المرّيخ إذن، وأنّ تحوّل الشباب اليافع للسلفية يعود لأسباب اجتماعية.
استخدم الفيلم تكنيك معروف، وهو تكنيك الحفر في مشكلات التنشئة الأولى، فهذا التوجه نحو فهم وعيش الدين بصورة معينة هو توجه ناشئ لأسباب عائدة للطفولة ومتعلقة بعلاقة الابن مع الأب التي اتّسمت بالعنف والإهانة. وهذا الأب العاجز عن أن يكون أبًا هو في نفس الوقت يرتكب ما يراه المؤمنون "معاصي" فهو يشرب الخمر، ويتحرّش بالنساء، بل ويدخل في علاقات محرّمة مع متزوجات في البيت، ممّا تسبب في صدمة الابن واستنجاده بخاله الذي، على النقيض من الأب، هادئ وحنون وكريم، وكان للبطل بمثابة الأب البديل الّذي عوّضه عن والده الحقيقي.
يغير الفيلم الصورة النمطية عن السلفيين أنهم من طبقات اجتماعية معينة وينجبون العديد من الأطفال ولا يهتمون بالذوق والجمال في بيوتهم |
وحين حاول الابن أن يجد متنفسًا من تسلّط والده، وأن يجد تعويضًا عن فقده لأمه، انجذب للمغنّي الشهير حينها في التسعينيات "مايكل جاكسون" الذي كانت أمّه تحب أغانيه، في حين كان يبغضه والده. ولكن الوالد لا يقبل تشبه ابنه بالمغني الشهير، ويستمر في معاملته بقسوة وفي نفس الوقت بإهانة، فيضربه ويأمره بخلع ملابسه الشبيهة بملابس مايكل جاكسون.
بعد الإهانات المتكرّرة والعنف المستمر من الوالد، قرّر "خالد" تلبية دعوة خاله، وإنقاذ نفسه من جحيم والده، وسافر إلى القاهرة ليبدأ فيها حياته سلفيًّا تأثرًا بخاله.
الرجل السلفي.. صورة تغاير النمط
بالإضافة لتسليط الضوء على نشأة رجل سلفي، وكأنّها محاولة لتسويغ هذا الاتجاه باعتباره واحة أمان من قسوة مفرطة وإهانة بالغة وفقد كبير يعانيه طفل صغير. فإنّ البطل حسَنَ التعامل مع النساء في محيطه، فهو يحبّ أمّه، وتكاد تكون هي الشخصية المحوريّة في حياته، فكان حبّه لمايكل جاكسون لأجل تعويض فقده لأمه، فقد شبهته أمه يومًا بمايكل جاكسون. كما أنّ البطل له حبيبة قديمة، يتودد لها ولا يلمسها، وإن طلبت ذلك، نفورًا من سلوكيات والده. وحين تزوج فهو لطيف التعامل مع زوجته "عائش" ومربّي ليّن مع ابنته، التي يحتوي حبّها لأغاني غربية على اليوتيوب، ويريبيها بأساليب غير مباشرة ليّنة تضمن استمرار علاقة صحية مع ابنته.
كما أنّه حين ذهب لطبيبة نفسية كان يظنها رجلاً لاسمها "نور" عاملها باحترام، وفضّل غضّ بصره عن أن يترك الجلسة النفسية حين رفضت طلبه بتغطية شعرها؛ بل وأهداها زهورًا جميلة عوضًا عن زهورها الذابلة. كل هذه التعاملات تبدو على عكس المتوقع، البطل إذن رجل سلفي لا يعادي المرأة بل يحترمها ويحسن معاملتها.
كما أنّ هذا الرجل السلفي، يتناول فطوره على المائدة مثل أي رجل معاصر، ولديه طفلة واحدة على رغم أن عمرها لا يقل عن الثامنة كونَها تستطيع تصفح الإنترنت. فهو رجل سلفي لكن ليس لديه "أُرطِة عيال" كما نقول في مصر. وهو يعيش في بيت خاله ذي الذوق الفنّي الجميل، على عكس ما هو متصور عن بيوت السلفيين رقيقة الحال والتي تفتقد للجمال. وحين قرّر خالد زيارة والده بعد قطيعة خمسة عشر عامًا، ولقاء حبيبته القديمة، ارتدى القميص والبنطال وشذّب لحيته في إشارة أنّه يعرف تكييف شكله حسب الوسط الاجتماعي.
يغير إذن الفيلم الصورة النمطية عن السلفيين أنهم من طبقات اجتماعية معينة وينجبون العديد من الأطفال ولا يهتمون بالذوق والجمال في بيوتهم.
من جهة أخرى، يبرز الفيلم أنّ السلفيين أعضاء عاديين مسالمين في المجتمع. يظهر الفيلم السلفي رجلاً مهتمًا بخلاصه الفردي، مهتمًا بآخرته، يوجه لها كل طاقته. ما يدعوه لمراجعة الطبيب النفسي هو شكوى إيمانية متعلقة بكونه لا يستطيع البكاء في صلاته، ولا يستطيع البكاء من خشية الله ما دعا الطبيبة النفسية إلى سؤاله عن المرّات التي بكى فيها، بدءًا من أوّل مرّة بكى فيها لفقد أمّه ثمّ المرات التي تلت في معاناته مع والده.
كما يصوّر الفيلم البطل صادقًا رافضًا للنفاق والرياء حين دُعي لإلقاء درس ديني لم يستطع إكماله لتقديره أنّه ليس بهذا القدر. وهذا ما يجعل المشاهد يأخذ صورة إيجابية عن إنسان حقيقي يكابد ليكون صالحًا بالفعل.
في النهاية، استطاع خالد مواجهة ماضيه الذي دفنه خمسة عشر عامًا، استطاع الصلح مع والده وتقبله كما هو، واستطاع الاعتراف بحبه السابق الذي لم يستطع الاعتراف به حينها. كما استطاع وضع مسافة بينه وبين خاله ومنادته بلقبه "خالو" كما واتته الشجاعة للاعتراف أنّه هو ذاته من أحبّ جاكسون، وأنّ ماضيه جزءٌ لا يتجزّأ منه؛ يظهر ذلك بقوة حين حصل على مقاله الذي كتبه صغيرًا عن "الله" والدار الآخرة وعرضه على طبيبته، وظهر في نهاية الفيلم حين استمع ورقص على أنغام مايكل جاكسون وهو بزيّه السلفي.
نموذج السلفيين في الفيلم هم السلفيون الذين يسمح "الرقيب" لهم بالوجود، وهذه السلفية الفردية هي السلفية المسموح لها بالانتشار، إنّها سلفية تشبه سلفية حزب النور على سبيل المثال |
في النهاية، يريد الفيلم أن يقول أنّ السلفي إنسان وديع، مرّ بماضٍ أليم، وكان المجتمع السلفي له واحة أمان. السّلفي، في الفيلم، هو إنسان بالغ الانشغال بنفسه وبآخرته، وشديد المراقبة لسلوكياته، حتّى إن كلّ فعل يُقدِم عليه، يحكم عليه بكونه "حسنة" أم "سيئة" ويضغط على الزر المناسب في خاتم تعداد الحسنات والسيئات الذي يرتديه باستمرار. يدرّب نفسه كل ليلة على حياة القبر، ويتأزم لعدم مقدرته على البكاء من خشية الله. إنه شخص لا يمثل ضررًا أو خطرًا لا على الدولة ولا على المجتمع، والاثنان لم يظهرا مطلقًا في الفيلم. ركّز الفيلم على الحياة النفسية للشيخ جاكسون وفقط.
فيلم يريده الرقيب
كما يحوز خالد السلفي رضا وموافقة "الإسلام الرسمي" المتمثل في العمامة الأزهرية التي تتنازل طواعية له عن إمامة الصلاة في المسجد. وهذا إشارة رمزية لرضا المؤسسة الدينية الرسمية عن هذا النمط من التدين السلفي.
لا أنكر أني خرجت من الفيلم مرتاحة، فلم أشاهد أي مشاهد عنف لفظي أو فعلي سوى من والد خالد وهو الشخص العادي الذي يمكن أن يكون أيّ والد في مصر، ليس له توجّه ديني.
هؤلاء هم السلفيون الذين يسمح "الرقيب" لهم بالوجود، وهذه السلفية الفردية هي السلفية المسموح لها بالانتشار، إنّها سلفية تشبه سلفية حزب النور على سبيل المثال. السلفية المهتمة بالفرد فقط في سلوكياته وشكله، وآخرته، ولا يقع في اهتمامها المجتمع ولا الدولة.
إذن لم يفلت "شيخ جاكسون" من مقص الرقيب بل إنّ الرقيب نفسه هو الذي يريده ويحتاج إليه في هذا الوقت من الركود السياسي في مصر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.