غوستاف لوبون طبيب وعالم اجتماع فرنسي عني بالحضارة الشرقية، وقد أثنى على الحضارة الإسلامية، وأقرّ بأثرها على الحضارة الغربيّة، بخلاف الكثير من نظراءه ومن فلاسفة الغرب، ومن أشهر ما سطّر هذا الرجل هو كتاب "سيكولوجية الجماهير" فقد أظهر فيه عبقريّة منقطعة النظير، وأخرج أفكاراً تُكتب بماء من ذهب، فيقول "لا جماهير من دون قائد كما لا قائد من دون جماهير" يحلّل فيه الجماهير على كافة المستويات، من طريقة تفكير، مشاعر، وعطب في الاتباع والتذلّل لمن يملك السلطة، فهم كالآلات لا تتعدى عقولهم الدائرة المرسومة من حاكمهم.
يقول المؤرّخ الروماني تاكيتوس "إن أردت معرفة من يتحكّم بك، فابحث عن الشخص الذي لا تستطيع انتقاده" الحريّة السياسيّة وإبداء الرأي دون قيود، أحد أكاذيب هذا العصر، ولم تتوقف عند هذا الحدّ أبداً، فهي مشكّلة بأساليب شيطانيّة، لإيهام الجماهير أنّ هذه الحريّة موجودة وموافَق عليها، ولكنّها في حقيقة الأمر مقنّنة ومسيّسة لأصحاب السلطة، ولها إطار واضح، لا يجرؤ التمرّد عليه كائناً من كان، ولكن تُمنح هذه الحريّات المزيّفة لإيجاد فسحة للجماهير، وذكاء القائد هنا يلعب دوراً هامّاً في شدّ الوثاق تارةً وحلّه تارةً أخرى، وفي هذا تقول الأناركية إيما جولدمان "لو أنّ الانتخاب والتصويت غيّر شيئاً، لجعلوه جريمة" فالجماهير كما ذكر لوبون وإن كانت علمانيّة، لا بدّ لها من أخذ طابع ديني لزوماً، وهذا الطابع أو الشكل الديني، يكون في عبادة القائد والتصفيق له، فالوعي الجماهيري يكون أحياناً مزيفاً أيضاً، وذلك بدسّ أقلام وأصوات مأجورة في صميم القاعدة الجماهيرية، وخلق وعي كاذب، هدفه التخدير، خوفاً من تمرّد -لا قدّر الله- يقلب موازين اللعبة على رؤوس أصحاب السلطة.
الطّامة الكبرى تتجلّى في كلام القائد عند الجماهير، فيصبح خطابه نصّاً مقدّساً، غير قابل للنقاش والنقد، دوغما لا يمكن المساس بها، والطريف في الموضوع أنّ هناك خطابات لقادة تصنّف على أنّها غاية في السذاجة، ولكن ترى الجماهير تحيي وتصفق، ولا تُلقِ بالاً لما قيل، فهي فقط تعبد هذا القائد من دون نقاشات وتساؤلات تؤرّق مضطجعه، ووجود هذه الجماهير هو من سنن الكون، ولن تستطيع التخلّص منها مهما فعلت، فهي باقية، وما يحصل هو صراع بين وعي الجماهير الزائف وبين الفئات النخبوية في أي مجتمع، فالجماهير مجنونة إن أحبّت قائداً فستتبعه حتى الموت عن لاوعي، وتنخفض عملية التفكير، ويوضع العقل جانباً، فلهذا يجب على النخبة أن ترى النور، وتجابه هذه الفوضى، لإيجاد شيء من التوازن، والوقوف في وجه القائد الذي برمج وخلق غوغائية تدافع عنه في كلِّ شيء.
التأثّر بنفس الطابع الذي كان دارجاً في عصر ما، من أهمّ ما أشار إليه لوبون، فترى التشابه العجيب في الجماهير الذين عاشوا في نفس الحقبة، وقد أشار إلى أنّ هذا التأثّر وجد طريقه أيضاً إلى فلاسفةِ ومفكّرين هذه الحقبة، ومن المفروض أن يكونوا طليعة هذه الحقبة ويكسروا حاجز الوثوقيّة والتسليم الدارج حينذاك، وعلى جانبٍ آخر، قوّة الفرد تُكتسب عند إحساسه بالعدد الغفير المجتمِع حولَه، ويسير به إلى الانصياع لكلّ ما يصدر عنه هذا الجمع، وعلى صعيد نفسي، هذا هو النمط للفرد، فهو يحسّ بالأمان، ويرتعد خوفاً بمجرّد التفكير بالخروج عن سائد الجماعة أو المجتمع الذي يعيش فيه، فهو مؤهل للانخراط والإنتاج والعمل في مسير جماعي ضخم، ولكنّه غير مؤهل للتأمّل، التفكير، والنقد، فقد قال المتكلّم الفذّ والسياسي الساخر جورج كارلين: "لا تستهين بقوّة الغباء الناتج من جموع غفيرة" فهنا يبدعون، وبغيره فلا! فلا مصلحةَ لهم فيه، والحقيقة ستكون في جهة العدد الأكبر من الجماهير، وهذا ما يُعطي الثقة للقائد أو الحاكم، ففي حال التشابه العقلي للجماهير بنسب عالية، سيكون فرض السطوة أسهل، وبالتالي اتباع سلس، لا تشوبه شائبة.
لا تكن من صنف العمّال المطيعين على غرار جورج كارلين، لأنّ هذا ما يريدونه، عقول معطّلة، لا تأبه بشيء سوى العمل ودفع الضرائب والتصفيق في نهاية كلّ حدث سلطوي
السؤال الذي يراودني دائماً هو: كيف يتمّ غسل عقول الجماهير على مواقع التواصل؟ وكيف يصبحون "سحّيجة" كما "سحّيجة" الحكومات والأنظمة؟ فقد تمكّن الكثير من الأدعياء على مواقع التواصل من غسل هذه العقول! ولا تعجب عند سماعك للاسطوانة المشروخة تحت مسمّى "أعداء النجاح" والردّ هنا سهل للغاية، فمعظم هؤلاء وحين البحث في سيرتهم لا تجد أي عمل معتبر يعوّل عليه، على عكس الكثير من القامات والعمالقة، وترى منهم من لا يهتّم بمواقع التواصل، فهدف هؤلاء هو كسب أكبر قدر من الشهرة فقط لا غير، ولن تستطيع أن تلمح أي صدق في النيّة، في جميع ما يطرحون ويقدّمون، فالأساس هنا هو ضخّ إعلامي، لغسل هذه العقول، ولكنّي أقول مرةً أخرى، كيف لهم بهذا السبيل! وأظنّ، لو جوستاف لوبون كان بيننا، لوجد صعوبة بعض الشيء في تفكيك مركّبات ما يحصل على مواقع التواصل، من زيف في الطرح وسعي وراء شهرة كذّابة، ولكن للأسف نجحت في تسلّلها إلى عقول الجماهير المستهدفة.
ولو نظرنا إلى الرُسل، سنجد نفس النهج للجماهير ومن قديم الزمان، فلم يُؤمن معهم إلّا قليل، وقد واجهوا الصعوبات وذاقوا المرّ في سبيل دعوتهم، وأودّ ذكر ما قاله عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فقد قال "أنت الجماعة ولو كنت وحدك" ومن هنا تستطيع الانطلاق لخوض معركة كهذه، والخروج من عباءة الجماهير، وبناء عقليّة مستقلّة وناقدة على الدوام، فلا تكن من صنف العمّال المطيعين على غرار جورج كارلين أيضاً، لأنّ هذا ما يريدونه، عقول معطّلة، لا تأبه بشيء سوى العمل ودفع الضرائب والتصفيق في نهاية كلّ حدث سلطوي، فعنوان مدوّنتي هو "تعكير صفو" فإن كنت من هذه الجماهير فاعقل لنفسك وابتعد، وابنِ لك كياناً، وكن من منظري جوستاف لوبون في مجالسك، كن متمرّداً، وادفع بنفسك للخوض في الصعاب، ولا توكل هذه المهمّة لغيرك، فهذه انهزاميّة وضيعة، ولن تقبلها على نفسك إن أدركت بحقّ فحوى ما حاول لوبون إيصاله للعالم أجمع، وما أصّل في كتابه، فلهذا الرجل دائرة معرفيّة ضخمة، أنتجت عملاً يشهد له القاصي والداني، ويرتعب منه أصحاب النفوذ والسطوة.
الأيام تنقضي والدائرة تدور، وسيبقى الحال على ما هو عليه، ولكن لا تنسى ما قال غسّان كنفاني وردّده ما دمتَ حيّاً "فلا تمت قبل أن تكون ندّاً".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.