شعار قسم مدونات

عندما هزم الشيخ جنود الانتقام

blogs ياسر كمال الغرباوي في دارفور

"هذا المسجد المُحروق الذي يقع على يمينك يصدح بأذان الفجر وحده بدون مؤذن يا أستاذ ياسر مع إشراقة كل صباح!".. هذه العبارة قالها لي عم أحمد السائق المرافق لي في رحلتي إلى غرب دارفور، فقلت له: معقول هذا الكلام ياعم أحمد؟ فقال: كل أهالي المنطقة يشهدون على ما أقول! قلت له: ما حكاية هذا المسجد؟ قال: اصبر قليلا فنحن ذاهبون إلى بيت الشيخ نصر الدين، وإن سألته سيروي لك القصة كاملة.

 

زاد شغفي أكثر وأكثر للقاء الشيخ نصر الدين، فأنا ذاهب إليه بالأساس من أجل سماع تجربته الملهِمة في تحوله من قائد يؤمن بالعنف سبيلا لنيل حقوق المهمشين في دارفور إلى زعيم قبلي منحاز لمبدأ السلام والنضال السلمي، وبعد قرابة نصف ساعة وصلنا إلى بيت الشيخ نصر الدين، فرحب بنا بالغ الترحاب، دخلنا بيته الفسيح، وجلسنا في فناء بيته تحت ظل شجرة غنَّاء فيحاء وافرة الظلال، وبدأت في محاورته مركّزا على تجربته الإنسانية التي جمعت بين الألم والأمل، والعبرة والخبرة، فدوَّنت كل ما قاله، وهو كثير، ولكني سأكتفي هنا بذكر محطتين فارقتين في مساره ومسيرته كان لهما الأثر الأبرز في تحوله نحو النضال السلمي.

 

هجوم الإبل وحقول الكركديه:

حادثة إبل الرعاة الجائعة يعتبرها نصر الدين فارقة في حياته، فقد جعلته يفكر عميقا في جدوى حمل السلاح، ويعيد النظر في جذور الصراع، ليكتشف أن العديد من هجمات الرعاة السابقة وربما اللاحقة لا تتوفر فيها نية قصد الضرر بالمزراعين

المحطة الأولى أخبرنا فيها الشيخ نصر أن إبل الرعاة الجائعة هاجمت قريته في إحدى ليالي دارفور المُظلمة في بدايات عام 2006م فأهلكت مئات الأفدنة المزورعة بمحصول الكركديه، الذي تعتمد عليه القرية في نشاطها الاقتصادي، وبعد مرور وقت قصير من الهجوم تنبّهت مجموعة الحراسة التي يقودها نصر الدين للواقعة، وبادرت بإطلاق النار على الإبل حتى تهرب، ومع شروق شمس اليوم الجديد بدأ نصر الدين في تقدير الخسائر، فوجد أنهم قتلوا عشرة جمال وثلاثة من الأفراد، ثم انتشرت مجموعته المسلحة حول القرية لمعرفة أماكن تمركز الرعاة وإبلهم، فاكتشفوا أن الرعاة قد نصبوا خيامهم على بعد خمسة كليومترات من القرية، فذهب إليهم من أجل طلب التعويض عن الخسائر التي تسببوا فيها، وذلك وفق عرف قبلي محلي اسمه "الجودية"، وبعد سجال حاد اكتشف نصر الدين أن الإبل المهاجمة لهم تحركت من تلقاء نفسها تحت ضغط الجوع والعطش وطول السفر، فهي قادمة من جمهورية تشاد المجاورة، ولم يجد لها الرعاة الماء أو الكلأ، فما كان من الإبل إلا أن تسربت إلى حقول القرية.

 

ولما اكتشف الرعاة تسربها انطلقوا خلفها محاولين إجبارها على العودة، لكن فشلوا في ذلك، وهنا بدا الأسف على ملامح وجه نصر الدين، بعدما تأكد أن الرعاة الثلاثة الذين قتلهم لم يكونوا مهاجمين معتدين، وإنما كانوا مسالمين! يحاولون السيطرة على إبلهم المُتسربة، وإبعادها عن مزراع الفلاحين! لم يقبل نصر الدين التعويض الذي عرضه شيخ الرعاة عليه متحليا بأخلاق الفرسان.

 

هذه الحادثة يعتبرها نصر الدين فارقة في حياته، فقد جعلته يفكر عميقا في جدوى حمل السلاح، ويعيد النظر في جذور الصراع، ليكتشف أن العديد من هجمات الرعاة السابقة وربما اللاحقة لا تتوفر فيها نية قصد الضرر بالمزراعين.

 

المسجد المحروق:

أخبرنا نصر الدين أن هناك مصيبة كبرى حدثت بعد حادثة الإبل بعامين للمديرية التي يسكنها هزت وجدان الرعاة والمزراعين معا، فقد تعرضت إحدى قرى المزراعين لهجوم كاسح ومتعمد من قبل البقارة (رعاة البقر) وحصل اشتباك بين الطرفين، وقُتل عدد كبير من الأفراد، وأحرقت بيوت، وهلكت أبقار، ووقع في الأسر العديد من الأشخاص، ومع حلول الليل انتصرت قرية المزراعين على الرعاة، فبدأت مجموعة الرعاة في الانسحاب وهي تُلملم أشلاء قتلاها، وما كان من الرعاة بعد ذلك إلا أنهم قرروا الانتقام من القرية بطريقة وحشية، فانتظروا أسبوعا كاملا لتجهيز الخطة والعدة من أجل إحداث انتقام مؤلم، فقرَّروا الهجوم على مسجد القرية المصنوع من الخشب والقش أثناء صلاة الجمعة، وإضرام النار فيه بإلقاء كرات اللهب عليه، ومحاصرته بمجموعة من المُقاتلين المزودين بالبنادق الآلية لقنص كل هارب من الحريق!! وقد نفّذ الرعاة خطتهم المتوحشة، فسقط في الحادثة نحو 150 مصليا بين محروق بالنار ومُصاب بالرصاص المسجور، ولما سمع الشيخ نصر الدين بالواقعة حرّك مجموعته، واشتبك مع المهاجمين بغرض فك حصار عن المسجد، وإسعاف المصابين الناجين.

 

كان الشيخ نصر الدين دائم التفكير والبحث عن مسار آخر غير العنف الذي وسَّع دائرة الانتقام، ومدد نطاق الكراهية، وجعل العيش المُشترك بين أبناء القرى مستحيلا

وبعد انقشاع غبار المعركة انشغلت القرية في لملمة جراحها ودفن موتاها، ثم تداعت مجموعات المزراعين المسلحة من أجل الإعداد لانتقام موسع من الرعاة، وبدأت كل مجموعة مسلحة في عرض خطتها، فطرحت طرق انتقام، مثل تسميم آبار المياه من أجل قتل أكبر عدد من الرعاة والإبل والأبقار والأغنام!! ونُوقشت خطط نصب كمائن لخطف الرهائن، وقُدّمت مقترحات  لحرق قُرى الرعاة بكاملها وبمَن فيها من النساء والأطفال، لكن نصر الدين كما حكى لنا ظل صامتا طوال النقاش، ولم ينبس ببنت شفة، فقد سرح بخياله فوجد أن الحياة في غرب دارفور تحولت إلى جحيم على الجميع بسبب الانتقام والكراهية المتبادلة بين الكل، فكل هجمة للرعاة تنطلق بعدها حملة ضدهم من المزراعين، وكل غارة للمزراعين على الرعاة يعقبها انتقام من الرعاة ضدهم، بشكل أعنف، حتى تخضبت أراضي القرى بالدماء والأشلاء، فلم تعد الأغنام ترعى ولم تعد الأرض تُنبت، ولم تعد الإبل تجد قوتها! فقد أحرقت أتون الحرب الأهلية الأرض والماشية، في معركة لا رابح فيها، وإنما الجميع فيها خاسرون.

 

ومن ساعتها بدأت حماسة نصر الدين للعنف والبارود تبرد، فتخلى عن قيادة المجموعة المسلحة، وأصبح فردا مقاتلا فيها فقط، وتخلى عن زمام القيادة لصالح شاب قُتل أبوه في حريق المسجد، ثم بعد ثلاثة أشهر انسحب من المجموعة تماما، وعاد إلى قريته وأرضه، ولكنه لم ينس مظلومية المزراعين، فكان دائم التفكير والبحث عن مسار آخر غير العنف الذي وسَّع دائرة الانتقام، ومدد نطاق الكراهية، وجعل العيش المُشترك بين أبناء القرى مستحيلا.

 

هنا تذكّرت عبارة عم أحمد عن أذان المسجد المحترق، فسألت الشيخ نصر: هل هذا المسجد المُحترق يُسمع منه أذان الفجر يا مولانا؟ فتبسَّم ضاحكا من سؤالي، وقال: نعم، لكنه في الحقيقة لا يؤذن ولا يصدح بالأذان، ولكن الخيال الشعبي للمزراعين من هول الصدمة وفداحة الجريمة بدأ ينسج قصصا وكرامات ومُبشرات غير حقيقية، محاولا تمجيد سيرة الشهداء الذين سقطوا ظلما وعدوانا في الحادثة، لعلهم يجدون فيها للصبر طريقا وللسلوى مدخلا.

 

محاسن الأقدار:

 تسارعت خُطى بناء السلام في الإقليم بعد ذلك من قبل جهات متنوعة، فكان من أبرزها وأهمها اتفاقية الدوحة للسلام بين الحكومة السودانية وبعض الحركات المتمردة في الإقليم
 تسارعت خُطى بناء السلام في الإقليم بعد ذلك من قبل جهات متنوعة، فكان من أبرزها وأهمها اتفاقية الدوحة للسلام بين الحكومة السودانية وبعض الحركات المتمردة في الإقليم
 

ومن محاسن الأقدار التي قصّها علينا الشيخ: أنه في نهايات عام 2010م جاءت لجنة إنسانية دولية لزيارة القرى المتضررة في غرب دارفور، حيث يسكن الشيخ، وطلبت اللجنة من كل قرية أن ترسل وفدا ممثلا لها للتشاور في مدينة الجنينة عاصمة غرب دارفور، فحضر الشيخ نصر الدين ممثلا عن قريته، وسافر إلى مقر اللجنة بالعاصمة، فوجد أن هدف اللجنة هو البحث عن شركاء محليين من المزراعين والرعاة، يؤمنون بأن هناك طرقا أخرى لنيل الحقوق غير خيار العنف والدم، وذلك للتشاور معهم في البدائل الممكنة، التي لا تجعل الناس في دارفور محصورين في خيارين اثنين: إما أن يكونوا ضحايا أو قاتلين، فكان ذلك من محاسن الصدف التي حصلت في حياة الشيخ، فقد تقاطعت مهمة اللجنة الدولية مع رغبته في البحث عن بدائل غير العنف، فاستمر في حضور برنامج اللجنة الذي شمل التدريب على تحليل النزاعات وإدارتها، ومعرفة وسائل بناء السلام، وآليات دمج المُقاتلين في الحياة المدنية.

 

ثم تسارعت خُطى بناء السلام في الإقليم بعد ذلك من قبل جهات متنوعة، فكان من أبرزها وأهمها اتفاقية الدوحة للسلام بين الحكومة السودانية وبعض الحركات المتمردة في الإقليم، وقد وُقّعت في عام 2011م، فحل الهدوء في العديد من قرى غرب دارفور، ودخلت قرية الشيخ نصر الدين في هذه الاتفافية، وبدأت منظمات الإغاثة في التدفق على المنطقة من أجل مساعدة أهالي المنطقة في تخفيف آثار الصراع، وكان الهلال الأحمر القطري من أوائل المؤسسات التي بدأت تعمل في المنطقة عقب اتفافية سلام الدوحة، وطرح الهلال الأحمر القطري العديد من المشروعات الإنسانية، ومن أبرزها مشروع الوئام في غرب دارفور، الذي يستهدف تسخير كل إمكانات العمل الخيري ليصب في رافد إعادة الوئام والسلام بين المحاربين سابقا، عبر الاستفادة من جهود أهالي القرى أنفسهم، فلما سمع الشيخ نصر بالمشروع ذهب وطلب التطوع به، فوافق الهلال الأحمر على انضمامه للمشروع، فأصبح المسؤول العام للجنة الوئام المتخصصة في فض النزاعات بين الأهالي حتى لا تشتعل الحرب من جديد، فأصبح بردا وسلاما على أهل غرب دارفور بعدما كان خرابا ودمارا عليهم.