"الأمل يضغط على صاحبه كما يضغط الألم"
من الخير للإنسان أن يتمنى، فالأمنياتُ دليل الرغبة والإقبال وهذا خير كثير، إنني أظن أن الإنسان الآملَ هو الذي يتطلّعُ ويرجو ويتمنى، أما إذا كفَّ عن ذلك فهذا ربما لأنه أحجمَ عن الحياة نفسها، إذ الحياة تعني الحركة والنشاط والتغيّر، والمحرك هو الأمل الجموح، أي الرغبة الطامحة.
مع أنني أستبعدُ دوام رضى الإنسان مهما بذل وكافح وحقّقَ، لكنني أرى أن "تطلّب الرضى" هو الطريق الوحيد لنرتقي ونحسّن من وضعيتنا، وهذا التحسن والتطوير متدرج بطبيعته، والذي يجعلنا نترقّى في مدارجِهِ هو شعورنا بعدم الاكتفاء بما أنجزنا مما يحملنا على تجاوزه بمضاعفة الجهد وترتيبه أكثر، ويأتينا الإحباط إن شعرنا بأننا أبطأ من تسارع الخطى المطلوب لتخطي الراهن إلى المأمول..
هكذا أظن، ونحنُ نُرْجع هذا التباطؤ أو التعثر بسبب الظروف غير المواتية إلى "الحظوظ الظالمة" التي تحابي، وذلك لأن عيوننا ملتصقة بالمأمول المتعالي دوماً عن "حضيض إنجازاتنا"، والذي يبدو كقمة جبلٍ نحنُ في سفحه، نحدّثُ أنفسنا باعتلائه، ونحرك خطانا إلى قمته، فكلما اقتربنا منه تباعدَ أكثر، لكأنه سرابٌ، وهو في الحقيقة "سراب المأمول"، وهو المحرّك لعجلة حياتنا على المستوى الفردي والجماعي.
من العجيب أن القمم ربما تعددت، إذ لكل إنسانٍ قمته التي يكافحُ في سبيل الصعود إليها، نحنُ نردك هذا، لكننا لا ندرك أن القمةُ تسخر بالجميع، وتتباعد منهم أكثر، فنتوهّم أن بعض الناس قد وصلوا واستوطنوا قمتهم في حين أنهم يلهثون في سبيل ذلك، وسيموتون ولم يصلوا، ومن الخير لهم أن يموتوا لاهثين، وهذا سرُ اعتقاد "الحظوظ الجائرة"، فلا حظوظ ولا جورَ!
"الخاصية المميزة للإنسان أنه يستطيع أن يحيا بواسطة "تطلعه إلى المستقبل" وفي هذا خلاصه من وجوده في أحلك الظروف، رغم أنه يجد نفسه في بعض الأوقات مضطراً للتفكير في مشكلاته.. وعندما يفقد ثقته في مستقبله أو في المستقبل عامةً، يكون قد حكم على نفسه بالفناء. وهو، مع فقدانه للثقة في المستقبل، يفقد تماسكه المعنوي، ويكون بذلك قد ترك نفسه للتدهور، وأصبح عرضة للانهيار العقلي والجسمي".
فيكتور فرانكلي
إن الانجازات مهما كانت هي -في عيون أهلها- مراحل على الطريق، ونحنُ نعتقد أنها القمة، فنشعرُ بالضيق لأننا نظن أن الآخرين وصلوا ونالوا، ونحن لم نصل ولم ننلْ.. صدقوني القمة سراب، سيموتُ الناس كلهم في السفوح.
إن الرغبة في تحقيق الأهداف، والتي يختلفُ الناس في تعيينها، كل هذا يدلُ بالنهاية إلى أن الإنسان يريد تحقيق شيءٍ ما في داخله عبر تحقيق أشياء أخرى في الخارج، وما تلك المتحققات -أو ما ستتحقق- في الخارج إلا محاولات لإرضاء أو إسكات هذا الدافع الداخلي فيه، إنها حاجةٌ قد وُلدنا بها ولا يبدو أننا سنستطيع التخلّصَ منها، والفشل -الذي يبدو وكأنه حتمي- في إرضاء الدافع هو ما يجلبُ لنا الإحباطات والضيق، ولهذا فإن الإحباط شعور طبيعي، لأنه نابع من الشعور بضرورة مواكبة الحياة، أي مواصلة السير الحثيث إلى "القمة السرابية"، ولا يجبُ أن نقلق من هذا الإحباط فهو خير، وربما لأننا نحاول التخلّص منه ننجح ونحقق ونتجاوز.
أظن أن زيادة الإحباط أو عدمه ستعني شيئاً واحداً هو "اليأس"، إن اليائس هو إنسان شبع إحباطاً فلا مزيد، ولهذا فهو مستحسرٌ متوقف عن ممارسة "حياة الصعود السرابي" كما يعيشها سكان "السفوح الدنيوية"، وبما أنناِ لم نيأس فإن الواجب أن نغتبط بالإحباط فهو الحافزُ!
أخيراً.. إن الناس يتفاوتون في مواقعهم على تلك السفوح، فمنهم من يقاربُ الكمال ويتعشقُ القمم، ومنهم من لم يبرح مسقط رأسه، وبينهما أكثر الخلق، كما أن القمم نفسها في تفاوتٍ عظيم، والعظيم يطمح دوماً إلى العظيم. ولن يجد الرضا التام إلا في الجنة، هناك سيسكنُ قلق الحياة!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.