يستغرب كثير من الناس الذين يعرفونني عن قرب عندما أخبرهم أنني في يوم ما كنت أرتدي النقاب، ولكنني في الحقيقة مررت بمرحلة من حياتي امتدت لعامين كنت على قناعة في بدايتهما بأن الحجاب كما كنت أفهمه آنذاك سوى بالنقاب.
ولكنني خلال السنتين اختبرت النقاب وعاينت الأسباب التي كانت تساق والحجج التي كانت تستخدم وما زالت حتى تقنع النساء بجدواه، ومع نهاية المدة توصلت إلى أن الأمر ليس بالبساطة التي يروجون لها. فلا النقاب منع الرجال من البحلقة ومدّ النظر، ولا هو كان سببًا لردع مجتمع النساء المنقبات الذي كنت أحتك به من ارتكاب عظائم الإثم من غيبة ونميمة وغيرها، ولا هو كان محفزًا لهن على الحياء والحشمة، ولم يغير طبعهن في التزين الذي في غير محله من لبس ما يحدد معالم الجسد أو التعطر الزائد الذي تشم ريحه من على بعد أميال، ولا المكياج الفاقع الذي يظهر في مكان كان المفترض أن تحتله عينان.
لا أقول ذلك لأشوه صورة المنقبات، ولا لأنفر الناس من مظاهر التدين كما هي العادة في انتقاد أي وجهة نظر مخالفة، ولكن الحقيقة التي نتجاهلها أن مجتمعات المنقبات أو من يرين فرضية النقاب وأفضليته لا تختلف عن غيرها في شيء. ومع ذلك فإن داعمي هذا "الحكم الشرعي" من الرجال يستخدمون هذه الأسطوانات للترويج للممارسات التي يرونها الأفضل.
فترى أحدهم يتحدث عن السيدة التي تكشف وجهها بألفاظ مثل: سافرة ومتبرجة، ثم يقولون لك هذه ألفاظ لغوية وليس مذمات في حد ذاتها، وكأن هذا سيلغي حقيقة معرفتهم بأن للكلمة دلالتها وظلالها، فيتحدثون عن فلانة السافرة تلك التي تلبس الأوشحة الملونة، وفلانة المتبرجة تلك التي ترتدي الخمار، ولا أعرف كيف وصلنا إلى هنا، كيف أصبحت المحتشمة متبرجة وصار النقاب وتغطية الوجه رأس سنام "الحجاب" بمفهومة المحرف الخالي من المعنى.
ناقشت أكثر من مرة سابقًا في مدونة "كثيرون حول الحجاب، قليلون حول الحشمة" ومدونة "اخلعي حجابك ولا تخلعي حشمتك" عن فهمي لمصطلح الحشمة ولأصوله كمطلب من مطالب الفلسفة والتشريع الإسلامي، وحديثي فيه ليس جديدًا ولا مبتكرًا بل حديث قال به الكثير من العلماء والمفكرين من قبل. ولكن كما نعرف فنحن نعيش في مجتمعات تحول فيها الدين إلى شغل الخاصة من الشيوخ الذين نسبوا لأنفسهم ما ينسبه الكهنة من احتكار الفهم والاستقلال بالنظر. ثم أضاف بعضهم على ذلك رفضهم للخلاف ولتعدد الأحكام، ومن هذا الباب جاءت تلك الطريقة المقيتة في الدعاية لمظهر مادي للتدين كالنقاب باعتباره علامة النجاة وباب الخلاص.
أتذكر جيدًا ذلك المنشور الذي رُسمت على صفحته الأول صورة لامرأة تلبس السواد من رأسها إلى أخمص قدميها فيما يسمى في دول الخليج "بعباءة الرأس" وتنسدل من على رأسها "غشوة" وهي تسير في طريق مزهر ومعشب إلى باب من نور، ثم على الجانب الآخر امرأة تلبس خمارًا يظهر وجهها لونه وردي، وتسير به في طريق تحفه النيران إلى الهاوية. أول مرة زقعت فيها عيني على هذا المنشور صعقت.. لم أعرف هل هذا فعلًا حقيقي؟ هل قام أحدهم فعلًا عن قناعة بعمل مثل هذا المنشور؟
الحشمة بنوعيها منظومة مجتمعية، يلتزم بها أطراف المجتمع كافة لتحقيق أكبر قدر من الفاعلية والتفرغ لخدمة الناس وإحسان العمل، وليست بحد ذاتها مطلبًا نقف عنده وندعي حيازة وسام التقوى |
عندما بدأت بارتداء النقاب بدأت بحثًا عن الحق، وقد كان كل ما يصلني عندها من مصادر تتعلق بالبحث عن الحق والتعمق في الدين مصادر تختار وتتخير ما تقدم لي وما تحجبه عني، مصادر متأثرة بعاداتها القبلية وبيئتها الاجتماعية التي رأت بين ما تهوى وما ترى توافقًا فتمسكت بما رأت دون عميق بحث ولا كثير جهد لتمحيص وتدقيق. ولما تركت النقاب تركته اتباعًا للحق الذي عرفت، وحتى لا أكون جزءًا من منظومة التجهيل تلك.
كنت أظن أن الحال تغير منذ تلك السنوات الـ13، ولكن يبدو أن شيئًا لم يتغير في هذا الخطاب. فها هو رجل يتحدث عن "أمك التي ستمشي في الشارع بدون نقاب، وأختك التي ستمشي في الشارع بدون نقاب، وابنتك التي ستمشي في الشارع بدون نقاب" وعن المعركة التي عليك أن تخوضها حتى تمنع هذا من الحدوث. والغريب في الأمر أن الرجل لم يتطرق ولو بكلمة لحقيقة أنه ربما فكر على سبيل الصدفة في أن دعمه هذا قد يكون من باب دعم قرار الأم أو الأخت أو الابنة، وأنه ليس له علاقة بك أنت، ولا برجولتك، ببساطة لأنه ليس من حقك أن تفرض على أي منهن أن ترتديه، ولكل امرأة أن تختار مذهبها الذي تريد، ولا ليس هو جزءًا من "الحجاب" ولا مرادفًا له. ولهذا فالنقاب أكثر من أي شيء آخر في نقاش الناس حول حشمة المرأة كثيرًا ما يتم استخدامه تحت باب: رجولة الرجل.
لماذا عندي مشكلة مع جعل النقاب (وغيره من الممارسات ذات الطابع المادي التي لا تتعدى دخولها في باب الفضائل) معركة وخطا أحمرا وممارسة يجب أن نتمسك بها بأيدينا وأرجلنا؟
لأن النقاب ليس فرضًا ليس عليه خلاف ولم يرد فيه نص صريح، ومهما حاول الفقهاء القائلون بالفرضية أن يفسروا الآية وبعض الروايات التي يسوقونها لإثبات فرضيته فمن المعروف أنه أمر خلافي وليس محسومًا، وغالب الأدلة تم ردها من قبل الفقهاء القائلين بعدم الفرضية (حتى لا يقال اتركوا أهل العلم ليحكموا؛ فهذا قول أهل العلم).
طيب ما المشكلة؟ الناس تتبع الفضل وتزيد من حشمتها وإلى آخره؟ لأنك لم تقل بأنه زيادة على الأصل ولم تتوقف عند الاستحسان بل صار هناك نوع من التقديس الذي حوّل النقاب إلى حصن من حصون الدين ورمزًا دالًا على أهله. وهكذا انتقلت مجالات الإصلاح من التركيز على ما هو من صلب التشريع إلى ما يقع في هوامشه. ليس بالضرورة التركيز على شيء دون الآخر، لماذا تريدين أن نترك النقاب حتى نلتفت لما هو أهم يمكننا فعل الأمرين؟
في الحقيقة الواقع لا يقول ذلك. الواقع يقول إن عامة الناس ليسوا زهادًا وعُبادًا، وليس لديهم من الطاقة النفسية والروحية ما يخوضون به التحديات الأخلاقية اليومية التي تواجههم، لذلك فإن طاقته التي وجهتها لكي يناضل من أجل أن يلتزم بالهوامش شغلته عن الاهتمام بالأصول بل وربما جعلته يكتسب الإثم بسبب سوء تقديره للفرق بين ما هو أصيل لا خلاف عليه وما هو هامشي غالب الظن أنه ليس فرضًا أصلًا.
أخيرًا.. المرأة تحتشم من أجل نفسها وليس خوفًا على أخلاقيات الرجل، حتى تعزز هي إنسانيتها بمقاومة رغبتها في حب الظهور وتلقي الإعجاب الذي يبحث عن الرجال والنساء على حد سواء، حتى تؤدب نفسها وتزهد فيما عند الناس رجالًا ونساءً. الرجل مسؤول عن نفسه له عينان يغلقهما، وفم يسكّه، ويدان يربطهما. الحشمة بنوعيها (عدم التزين في غير محله/غض الطرف عن الزينة المغرية) منظومة مجتمعية، يلتزم بها أطراف المجتمع كافة لتحقيق أكبر قدر من الفاعلية والتفرغ لخدمة الناس وإحسان العمل، وليست في حد ذاتها مطلبًا نقف عنده وندعي حيازة وسام التقوى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.