أدت حركة الإحياء الديني، إلى إبراز مركزية فلسطين في التراث المسيحي واليهودي، إذ اعتقد كثيرون بأن الهزيمة الحاسمة للقوى المناهضة للمسيح ستكون في مكان يدعى (هَرْ مَجدون) في تلك الأرض، وبأن "أورشليم" السماوية ستنزل إلى الأرض، وبأن يسوع المسيح سيعود إلى هناك ليحكم أتباعه المخلصين لمدة ألف عام.
وكان ثمة عملية عودة إلى الكتاب المقدس، وهي جزء لا يتجزأ من أي غليان أو انتعاش ديني في العالم المسيحي، ما لبثت أن أفضت، بطبيعة الحال، إلى ذلك. فدراسة "الكتاب المقدس"، ونبوءة دانيال في "العهد القديم"، ورؤيا القديس يوحنا في العهد الجديد خصوصًا، وجهت عقول الناس إلى اليهود الذين كانوا ذات يوم شعب الرب المختار، إلى وضعهم الحالي ومصيرهم المستقبلي.
تقول بيَان نويهض الحوت، في كتابها "فلسطين: القضية. الشعب. الحضارة": "أصبح أنبياء اليهود يحتلون بالتدريج مكان الأبطال اليونان الكلاسيكيين في عالم الأدب الغربي. وحتى اليهود المعاصرون باتوا يصوَّرون كشخصيات متميزة. وجاءت مرحلة حل الأدب فيها مكان النهج الديني، ولمعت أسماء عديدة من الشعراء والأدباء الذين انصرفت أقلامهم إلى وصف الشخصيات والصفات اليهودية. وقد فاقت حماسة البعض منهم، في تأييد عودة اليهود إلى فلسطين، كل تصوّر".

ويمكن أن نجد صدى لها أيضًا في أشعار جون ميلتون (John Milton)، والذي عاش في بيئة بيوريتانية، واختار موضوعاته من الكتاب السائد في بيئته "العهد القديم"، فكان يؤمن ببعث (إسرائيل)، وبالعصر الألفي السعيد. يقول في قصيدته "الفردوس المستعاد":
لعل الله الذي يعرف الوقت المناسب
سيشق لهم البحر وهم عائدون مسرعين جذلين إلى وطنهم
كما شق البحر الأحمر ونهر الأردن عندما عاد آباؤهم للأرض الموعودة
إنني أتركهم لعنايته وللزمن الذي يختاره من أجل عودتهم.
كتب اللورد بايرون أو جورج غوردون بايرون (Lord Byron) مجموعته الشعرية "الألحان العبرية" عام 1815؛ وقال في فاتحة أشهر قصائدها "أبك من أجل هؤلاء":
أيتها القبيلة الكثيرة التجوال وذات الصدر المرهف… كيف ستستقرين وتشعرين بالراحة؟
إن لليمامة عشها، وللثعلب وكره
وللبشرية وطنها… أما (إسرائيل) فليس لها إلا القبر.
وكتب روبرت براوننج؛ شاعر وكاتب مسرحي إنجليزي، قصيدته "يوم الصليب" عام (1855)، لتبدو فيها الأفكار اليهودية أكثر مما تبدو في أي شعر سابق له، ويقول فيها:
سيرحم الله يعقوب
وسيرى إسرائيل في حماه
عندما ترى يهوذا أورشليم
سينضم لهم الغرباء
وسيتشبث المسيحيون ببيت يعقوب
وهكذا قال النبي وهكذا يعتقد الأنبياء.
وبالإضافة إلى جون ميلتون، واللورد بايرون، وروبرت براوننج، ترددت أفكار مشابهة في قصائد وأعمال أدبية لكولريدج (Colridge) وألكسندر بوب (Alexander pope) ووليم بليك (William Blacke)، كما ترددت في كتابات جان راسين (Jean Racine) وجاك بوسيه (Jacque Bousset). وتعتبر رواية جورج آليوت (George Eliot) دانيال ديروندا (Daniel Deronda) من الأدبيات التوراتية التي تنبأت بقيام "إسرائيل" جمهورية تسود فيها العدالة والحرية والرخاء.
ومن الواضح أن جورج إليوت، تنطلق من مفهوم الشعب العضوي المنبوذ. ولذا، فقد نشرت رواية دانيل ديروندا (1876)، وهي رواية ذات طابع صهيوني عن يهودي يكتشف هويته (أو بتعبير أدق ما يتصوره جذوره العرْقية اليهودية) ويرى أن لا خلاص له إلا من خلال الحل الصهيوني، أي من خلال الهجرة وتأسيس دولة يهودية. وتقدم الرواية صورة إدراكية جديدة لليهودي باعتباره بطلًا لتحل محل الصورة الإدراكية القديمة لليهودي باعتباره تاجرًا أو مرابيًا.
توصل إسحق نيوتن (1643 ــ 1727) في كتابه "ملاحظات حول نبوءات دانيال ورؤيا القديس جون" (الذي نشر بعد خمس سنوات من وفاته) إلى أن اليهود سيعودون إلى وطنهم لا أدري كيف سيتم ذلك، ولنترك الزمن يفسره |
وقد جاء في الرواية دعوة إلى مشروع صهيوني يموُله أغنياء اليهود ويتم الإعلام عنه بكفاءة، بحيث ينظم اليهود أنفسهم بهدف "تأسيس كيان يهودي… مركز عضو للعرْق اليهودي". يتم ذلك عن طريق هجرة عظمى ثانية تتحرك من خلالها روح الإنجاز السامية، ليصبح اليهود أمة مثل كل الأمم. وقد اعتبرت "أنسيكلوبيديا الصهيونية وإسرائيل" ان رواية دانيل ديروندا كانت "مقدمة أدبية" لوعد بلفور.
تقول ريجينا الشريف، في كتابها "الصهيونية غير اليهودية": يلمس المرء في كتابات فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر البارزين، كجون لوك وإسحق نيوتن وجوهان جوتفريد هردر وكانت، مناصرة أوروبية لقضية عودة اليهود إلى فلسطين، فقد جاء في تعليقات على "رسائل القديس بولس" الذي كتبه جون لوك واضع النظرية السياسية الليبرالية "أن الله قادر على جمع اليهود في كيان واحد… وجعلهم في وضع مزدهر في وطنهم".
إن صورة القرن الثامن عشر باعتباره العصر الكلاسيكي للعقل الذي ازدهرت فيه الاكتشافات العلمية للقوانين الطبيعية التي تتحدى الكتاب المقدس لتتعارض مع كثير من اهتمامات العلماء/ الفلاسفة بالتعاليم المتعلقة بالأخرويات. لقد حاول هؤلاء أن يوجدوا تفسيرات علمية خاصة لعودة اليهود إلى فلسطين.
وتوصل إسحق نيوتن (1643 ــ 1727) في كتابه "ملاحظات حول نبوءات دانيال ورؤيا القديس جون" (الذي نشر بعد خمس سنوات من وفاته) إلى أن اليهود سيعودون إلى وطنهم لا أدري كيف سيتم ذلك، ولنترك الزمن يفسره. وذهب إلى أبعد من ذلك حين حاول أن يضع جدولًا زمنيًا للأحداث التي تفضي إلى العودة وتوقع تدخل قوة أرضية من أجل إعادة اليهود المشتتين.
يقول بويكين في "الجذور المسيحية للصهيونية" إن نيوتن أسس مدرسة قيامية دشنها وليم وستون (William Whiston) الذي خلفه على كرسي الرياضيات في كامبردج، وجون تولاند (John Toland) الذي طالب بتأسيس دولة يهودية "يجب أن تكون أقوى دولة في العالم"، ودافيد هارتلي (David Hartley) أحد مؤسسي علم النفس الحديث الذي ختم بحثه العلمي بفصل عن توطين اليهود في فلسطين.

وبشرنا في كتابه "ملاحظات على الإنسان ــ Observations On Man " بأنه لن تكون هناك سعادة حقيقية خالصة ولن تنزل أورشليم السماوية ولن تقوم مملكة الله إلا بعد دمار فلسطين وبابل وأهلها بالنار.
وفي نفس السياق جاء خطاب العالم الطبيعي جوزيف بريستلي [عالم بريطاني، ورجل دين معارض، وعالم في الكيمياء والفيزياء، له عدد من الاكتشافات، وينسب إليه اكتشاف الأوكسجين] إلى نسل إبراهيم وإسحق ويعقوب سنة (1799): " فلسطين، مجد البلاد قاطبة، تؤلف الآن جزءًا من الإمبراطورية التركية، وهي تكاد تكون خالية من السكان: أرضها لا تعرف الحداثة ابدًا، إنها فارغة ومستعدة لاستقبالكم. غير أنه ما لم (تنهار) هذه الدولة التي تحتفظ لنفسها بتلك البلاد دونما أية منفعة يجنيها، فمن المحال أن تصبح بلادكم، لذا فأنا أصلي جديًا لإغلالها".
وتظهر دولة "إسرائيل" المستقبلة في كتابات جان جاك روسو، فقد جاء في كتابه "أميل" (1762): "لن نعرف الدوافع الداخلية لليهود أبدًا حتى تكون لهم دولتهم الحرة ومدارسهم وجامعاتهم".
من هنا، يتبين لنا أن الشعراء، والأدباء، والفلاسفة، عملوا عن قصد على استمرار تعزيز فكرة عودة اليهود إلى فلسطين، وهو الاتجاه الذي كان يسير فيه اللاهوتيون.