شعار قسم مدونات

ما بعد الحداثة.. لماذا نكرر الرفض ونفشل في النماذج؟

blogs الحداثة

يدور جدال اليوم في الغرب عما بعد الحداثة، وهذا نجده في كتابات ليوتار ودريدا وغيرهما، يقولون هذا لأن الحداثة الغربية أخفقت في الإجابة عن الأسئلة الكبرى للإنسان أو بحسب تعبير ليوتار: وصلت إلى حالة "الشك في السرديات الكبرى".

 

فقد انطلقت الحداثة لإعلاء شأن الإنسان، فهربت من مركزية الله إلى مركزية الإنسان، لكن النتيجة صبت في مركزية المادة والقوة فقط، واليوم نشهد تشييء الإنسان أي تحويله إلى سلعة أو شيء، هذا المأزق أوجد صدى كبيرا لصرخة ما بعد الحداثة.

 

هذا التحول الخطير إلى مركزية المادة والقوة أنطق باومان صاحب كتاب "الحداثة والهولوكست" للقول إن الإبادة منتج طبيعي ومتكرر للحداثة، لأن جوهر الحداثة -من وجهة نظره- رفض الآخر وتطويعه لرؤيتها أو إزاحته عن المشهد، وهذا ما حدث في الحربين العالميتين، وما حدث في قصة الاحتلال الغربي للشعوب، وما حدث مع النازية والفاشية، وما حدث مع الهنود الحمر في أميركا ثم مع السود.

 

الاستقرار الفردي والأسري ذبل وعادت صورة البدو الرُّحَل في شكل الإنسان الذي لا استقرار له، لا علاقات دائمة ولا صداقات دائمة، فهو في ترحال دائم حسب تعبير باومان
الاستقرار الفردي والأسري ذبل وعادت صورة البدو الرُّحَل في شكل الإنسان الذي لا استقرار له، لا علاقات دائمة ولا صداقات دائمة، فهو في ترحال دائم حسب تعبير باومان
 

ومن يتتبع كتابات الغربيين يلمس أن مسلّمات الأمس لم تعد اليوم مسلّمات، ففيزياء نويتن والكون الإستاتيكي انتهى بظهور فيزياء الكم، وعاد الإنسان إلى المربع الأول حيث صار لا يعرف كُنه المادة، ومن هنا سقط الانتشاء القائل بقدرة العلم على تفسير كل شيء.

 

– الديمقراطية صارت ديكتاتورية الأغلبية حسب تعبير سيتورات ميل.

– الدولة الحديثة نفسها حلت محل الإله كما شخّصها برتراند رسل، فهي التي تقرر الخيارات النهائية للمجتمع.

– الرأسمالية توحشت وفقدت حتى وطنيتها، اليوم أصبح الحديث عن شركات لا جنسية لها ولا انتماء.

– الاستقرار الفردي والأسري ذبل وعادت صورة البدو الرُّحَل في شكل الإنسان الذي لا استقرار له، لا علاقات دائمة ولا صداقات دائمة، فهو في ترحال دائم حسب تعبير باومان.

– تمددت مساحة النسبي حتى كادت تقضي على المطلق وصارت العدمية هي التفكير السائد في الغرب، لا نقطة ارتكاز، لا معنى مطلق، لا شيء سوى القوة والقوة فقط.

 

ولو تابعت إعلان ترمب الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ لوجدت الروح النيتشوية -نسبة إلى نيتشه- في أبرز تجلياتها، القوة والمصلحة الذاتية ولو على حساب الإنسان.

طبعا هناك موجات مقاومة مختلفة ومتنوعة في الغرب، منها مَن يعوّض الجوع الروحي بالعودة إلى الكنيسة، وهذه نراها في صحوة اليمين الأوروبي. وهناك مقاومة على مستوى الاقتصاد بحقن المنظومة الرأسمالية بمضامين اشتراكية، وهذه خففت من التوحش الرأسمالي وبالذات في أوروبا الغربية، حيث ساهم الخطاب الاشتراكي في توسيع دائرة العدالة الاجتماعية وتخفيف الغلو الرأسمالي.

 

حالة الرهاب من الإسلام التي تروجها وسائل الإعلام الغربية، وغرق الإنسان الغربي بحمأة المادة لن يسمح لهذا الجيل على الأقل بالتعرف على الإسلام، خاصة بظل الفقر الرمزي للإسلام اليوم

هناك مقاومة للعدمية ببعث الإنسانية والأدب الإنساني من جديد. هناك جهود لإعادة بناء منظور جديد للعلم يستفيد من آخر بحوث علم الأعصاب التي أكدت الجانب اللامرئي من الإنسان، وقاومت اختزاله في بُعد مادي واحد. لكن السؤال: ما مصير هذه المقاومة في الغرب؟ وما مقدرتها على تجديد الانبعاث الأخلاقي في الغرب؟

 

ما مصير مقاومة العلماء للجنوح الحداثي والاستخدام الخاطئ للعلم؟ لا ننسى أن مخترع الديناميت أوقف أمواله لنشر السلام بعد أن هاله الاستخدام المتوحش لاختراعه في قتل البشر فكانت جائزة "نوبل"، وصناع القنبلة النووية كفروا عن سيئاتهم بطريقتهم الخاصة.

 

ثم ما مصير دعوات المسلمين في الغرب كمراد هوفمان وروبرت كرين مستشار الرئيس نيكسون وجارودي وبيجوفيتش وجمهرة دعاة المسلمين في الغرب الذين يرون أن البديل لحالة الانسداد الغربي كامن في الإسلام؟

 

واضح أن حالة الرهاب من الإسلام التي تروجها وسائل الإعلام الغربية، وغرق الإنسان الغربي في حمأة المادة لن يسمح لهذا الجيل على الأقل بالتعرف على الإسلام، خاصة في ظل الفقر الرمزي للإسلام في عالم اليوم، إذ لا توجد تجربة مشعة يبخع لها الباحثون عن البديل.

 

أما في حقلنا العربي فواضح أن تيار الحداثة أخفق نظريا وعمليا، ولذلك عمد الجيل الجديد من الحداثيين إلى توسل التراث لإكساب المفاهيم الحداثية صبغة الشرعية، وهي تقنية عبّر عنها شيخ الإسلام الهروي بأسلوبه الأدبي الرائق وهو ينتقد تيار الفلسفة اليونانية في عهده قائلا: أخذوا مخ الفلسفة فلبسوه لحاء السنة.

 

وبدأنا نشهد موجة جديدة تستبطن المفاهيم الغربية تحت يافطات العدالة وحقوق الإنسان والحرية دونما وعي بضرورة بناء النموذج الذاتي الذي يجسد القيم الإنسانية العليا من منظورنا الإسلامي.

 

حركة التأصيل ما لم تتطور لبناء النموذج الحديث المنطلق من منظورنا الخاص فلن تتجاوز دائرتي الرفض للمنتجات الحديثة أو تشذيب الأشكال دونما تغيير في جوهر منتجات الحضارة القائمة
حركة التأصيل ما لم تتطور لبناء النموذج الحديث المنطلق من منظورنا الخاص فلن تتجاوز دائرتي الرفض للمنتجات الحديثة أو تشذيب الأشكال دونما تغيير في جوهر منتجات الحضارة القائمة
 

لو تأملنا في تجربة البنوك الإسلامية، وهي مؤسسة اعتمدت في منظومتها على النموذج الغربي بعد التهذيب والتشذيب، فإن فلسفة البنك الإسلامي لا تزال غربية حتى اليوم، فهو جهاز إقراض بالدرجة الأولى، ولمّا يظهر لدينا بنك وفق المنظور الإسلامي الذي يساهم في التنمية من خلال المشاركة لا الإقراض. وهذا أنموذج فاقع لفلترة المظاهر دونما بناء النموذج الخاص بنا والمُعبّر عن مقاصد ديننا الحنيف.

 

ومن هنا ندرك أن حركة التأصيل ما لم تتطور إلى بناء النموذج الحديث المنطلق من منظورنا الخاص فلن تتجاوز دائرتي الرفض للمنتجات الحديثة أو تشذيب الأشكال دونما تغيير في جوهر منتجات الحضارة القائمة.

 

وهنا يجب علينا الانطلاق إلى بناء النموذج المعرفي والنموذج التحديثي الخاص بنا وفق منظورنا الإسلامي الخاص، وإلا سنؤصّل للمنتجات ونقدمها مؤسلمة وهي تحمل في روحها التغريب الذي أوسعناه ذما وقدحا. الغرب اليوم يخطو في ما بعد بعد الحداثة، فأين الخطوة القادمة؟ وإلى أين سيقود العالم؟ وأين نحن في هذه الخرائط المتغيرة؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.