فنتيجة الحرب تؤدي إلى تحول مجتمعي عميق على نحو بعيد المدى، وبالتالي تحول فكري وعقائدي عميق عند الأفراد يدفع حركة تحول عامة، ولا يحدث ذلك إلا إذا انتقل هذا التناقض الذي نتجت عنه الحرب إلى وعي ووجدان الناس، فقد يبقى التناقض آلاف السنين دون تغيير مالم ينتقل إلى الوعي والإدراك وبالتالي البحث عن سبل وحلول لمليء هذه الهوّة، فالنشاطات الاجتماعية التي تنتجها الحرب -بمعناها المجرد- تصوغ إنساناً واعياً تماماً كما يفتعله الظلم والاستبداد من حركة فكريّة وثقافيّة كبيرة، بحيث تصوغ خلفيّة عقليّة لدى الإنسان تنبذ الرجعيّة والتنازع وترغب في السلم كحل لكل المشاكل سواء أكانت على المستوى الداخلي أو الخارجي، فتكون الحرب كحمار عزير حمله رغم التّيه إلى ضوء اليقين.
ومن وجه آخر، تبدو حاجيّات وممتلكات الإنسان في هذه الدنيا في حالة السّلم كالحياة والمسكن والمال والْبَنُون أشياء لا يمكن التفْريط فيها، بل وتبدو المواعِظ والخُطب الرنّانة التي تُذكر بفناء و زوال هذه الأشياء بدون قيمة أو معنى، ويزْداد غُلُو الإنسان في توغّله المادي الملازم لطبعه، ثم ما تلبث أن تتصدّع هذه القشرة الرّقيقة التي تُغطّي هذه الأشياء في رحى الحرب الدائرة فمثلاً يبدو الاستقلال الشخصي أمراً في غاية الأهميّة لدى الفرد في حياته، ثم ما تلبث أن تذوب هذه الخاصية وتتجلّى صفة زوالها فتبدو الحرب وكأنها محافظة على الكل، وتُصْبح التّضحية بالفرديّة جوهر واجب الأفراد تجاه مجتمعهم -على اختلاف نوعيّة المجتمع أو الجماعة وتوجهاتها- ويصبح للخطب والمواعِظ قيمة، حتى الاختلاف الإيديولوجي والطبقي يذوب كالملح في إناء ينضح بالموت.
الحرب الحديثة وتطور مفهوم الشّجاعة، بعد أن كانت الشّجاعة خَلّة شخصيّة لدى المقاتل أو الفارس تأخذ بعداً رومنسياً وسيكولوجياً في دوافعها كالجرأة والجسارة والإقدام، وبعد أن كانت النِّديّة والغَلبة بين المقاتلين تعتمد على القوة البدنيّة في غالبها، ومع تطور المجتمعات المتمدّنة وسطوع نجم البارود وما تلاها من تطور هائل في مجال التصْنيع العسكري أصبح المقاتل وإن كان جباناً أخرقاً يُنهي خصمه بطلْقة ناريّة أو قذيفة صاروخيّة من مسافة بعيدة دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة أو حتى أحياناً دون الحاجة إلى رؤيته.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.