تربكنا فكرة الموت في جوهر كونها انقطاعٌ للإنسان عن الناس والحياة التي يُحب، لكنها تُخيفنا أكثر في كونها ذلك الرحيل الغامض والبعيد وغير المتوقع الذي يضرب فجأة ويخطف دون سابق إنذار. ومتى ما صار الموت ذا وقعٍ قريب، متكرر، نُطالع أخباره في اللحظة التي نفتح فيها أعيننا كل صباح لتفقد هاتفنا المحمول، تكسّرت دوائر الجلال والرهبة التي تَلُفُّه، واكتسى في لحظة ما ثوبا دنيويا يُناقض حقيقة ما تحته، وربما تحول فجأة إلى ثوب مرقّع تنسلّ منه مشاعرنا الوقورة كما تنسلّ الكثير من مشاعرنا الأخرى التي تنهبها سيولة الحياة.
قال لي أحدهم ذات مرة إن مواقع التواصل جعلت في صدر كل منا قلبا حانوتيا لم يَعُد يذرف الدموع أمام مشهد الموت، تشبيه صادم لكنه يلامس الحقيقة في بعض الجوانب، خاصة حين ترى كلمات العزاء تتناثر على طريقة الـ (Copy – Paste) بين المنشورات التي تطلب الرحمة وتعلن عن بيوت العزاء ومواقيتها.
هل نحن أسأنا لجلال الموت؟ أم أنه ما عاد ذا رهبة منذ أن بدأ يتجول في حاراتنا وبين أصدقائنا وأهلنا المحبّين، فصارت لحظاته موثقة بكاميرا الجوال، وتفاصيله محكية على الشاشات. يغدو ذكر الموت في مواقع التواصل باهتا جدا، وباردا كلوح جليد حين يُعرّفك بأشخاص تعتاد مصافحة أفكارهم، ثم يسرقهم الغياب من أمام عينيك دون ضجيج، فلا أنت تحضر تشييعهم، أو ترافقهم إلى مثواهم الأخير في هذه الدنيا، ولا تتقبل فيهم العزاء.
هم يختفون من حياتنا الافتراضية فجأة لا أكثر، وتتوقف كلماتهم عن التدفق إلى شاشاتنا فيأخذنا الفقد أياما، ثم ما نلبث أن ننسى.. وفي غمرة النسيان تُطالعنا فجأة صورة! لتكتشف أن صورهم التي اعتدنا التحديق فيها تطفو على لون رمادي غير منظور، فلا تدري فعلا هل عبثت بالصورة يد مصمّم غرافيك محترف، أم أن شيئا علويا ارتدّ عليها فجأة فصارت باهتة، وصارت عيون أصحابها غائرة في فراغ بعيد.
الموت في زمن وسائل التواصل قاسٍ أيضا، فهو يُعلّقك بأشخاص يرحلون عن الدنيا قبل أن يتسنى لك لقاؤهم! يأتيك الخبر فلا تدري هل أصابك حزن الفقد من بعد الوصال، أم أنها حسرة على عدم الوصال؟
وهو مستفزّ أيضا، حين ترى تتابع الأصدقاء من كل اتجاه في إثبات وصلهم بفقيد ألقوا عليه التحية ذات مرة، أو اقتنصوا معه صورة عابرة بحثوا عنها لساعات في أرشيف الصور، أو ربما كان ممن تلكؤوا في الرد على رسائله والتجاوب مع كلماته.
لماذا يحاول بعضنا إثبات علاقته بإنسان خطفه الموت أو يكاد؟ سؤال لا أجد له إجابة، وتزعجني فكرة أن يجني أحدهم علامات الإعجاب وكلمات التعاطف على حساب روح تنازع الحياة.
ولأن الموت هو الموت، فهو يبقى مخيفا حتى في وسائل التواصل، ولا أصعب من أن تبحث في الأفكار الأخيرة والأحلام الكثيرة لمن كان بيننا بالأمس، تُداعب أنامله بحماس أو ضجر لوحة مفاتيح إلكترونية تشبه لوحاتنا، وتصفّ حروفا تشبه حروفنا، لكنها اليوم أنامل باردة، ملفوفة بالأبيض، في مكان رطب تحت التراب!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.