الكيانُ الصهيوني ليس دولةً استعماريةً فقط احتلت أرض فلسطين، ونهبت مقدراتها، وطمست هويتها، وقتلت أبناءها، بل دولةً دينيةً امتهنت عنصريةً مقيتةً تسوق عل إثرها فظاعاتها، وتشرعنُ بموجبها جرائمها المنتهكة لجميع القوانين الدوليةِ والشرائع السماويةِ، فهم يدَّعون بأنهم شعبُ الله المختار، ومجيئهم إلى فلسطين لم يكن إلا تنفيذاً لأمرٍ رباني مزعوم بأحقية السكنى في تلك الأرض، وبذلك يتكشف لنا الوجه الحقيقي، والصورة الفعلية لدولةٍ طالما طبل لها المطبلون من العرب والمسلمين.
الإماراتُ لم تكن بمنأى عن التطبيع، فبدلاً من حصارِ إسرائيل ومقاطعتها بسبب انتهاكاتها الخطيرة للقانونِ الدولي، قامت بالتنسيقِ الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري معها |
لكلٍّ منا مثلٌ أعلى يقتدي بهِ ويحذو حذوهُ، وقبلةً يهتدي إليها، وملهماً ينيرُ لهُ دروب حياتهِ، وما دمنا نتحدثُ عن الإسلامِ فمِنَ الطبيعي أن تكون الكعبةُ قبلةَ المسلمين التي يطمئنون إليها، وبحسنِ نيةٍ يعتقدُ السوادُ الأعظمُ من المسلمين بأنَّ آل سعودٍ هم أحق الناس بالتبعيةِ، وأجدرهم بالموالاةِ ما داموا يَحكمونَ تلك البقاع المقدسة ويُحكِمونَ عليها سيطرتهم، كونهم الملهم الأول لجميعِ مسلميَّ العالم على حد اعتقادهم.
هذا الاعتقاد الخاطئ، وتلك الرؤية السطحية التي يوجهون على أساسها تفكيرهم من منطلقِ حبهم للإسلامِ ستقودهم إلى مالا يُحمدُ عقباهُ من النتائجِ، فهؤلاءِ الذين يرون فيهم خدَّاماً للحرمينِ الشريفينِ كما يُطلقونَ على أنفسهم كانوا وما يزالوا الرعاةَ الأوائل للتطبيعِ مع إسرائيل، وهذا لم يعُد خافياً إلا على السُذَّجِ من الناس، الأمر الذي يشكِّلُ خطورةً حقيقيةً ينبغي التنبه لها ومواجهتها بما يحدُّ من ضررها على الفردِ والمجتمعِ، فمحاولةُ طمس كل ما لهُ علاقةٌ بالجهادِ سواءً من القرآنِ أو السنة سياسةً خبيثةً عمِدت المملكةُ على تنفيذها طيلة السنوات الماضية ، ويساعدها على ذلك زمرة من علماء السلطةِ الذين يفتونَ بالتحريمِ والتحليلِ متى ما أمرَ الملكُ وبالشكلِ الذي يريد.
وما الصورة الأخيرةَ التي ظهرَ من خلالها إمام الحرم المكي عبد الرحمن السديس واقفاً إلى جوارِ المبعوثِ الصهيوني في نيويورك أثناء إقامة مؤتمر ما يسمى بـ"حوار الأديان" إلا خير شاهدٍ على ذلك، حيث أكد على أنََّّ السعوديةِ وأميركا هما قطبا العالم في التأثير، شاكراً الرئيس ترمب على جهوده من أجل إحلال السلام العالمي، في مشهدٍ يعكسُ حجم التطبيع السعودي مع إسرائيل والذي بدأت تستشعر السعودية ضرورة إظهارهِ للعلنِ أكثر من أي وقتٍ مضى.
هذا التطبيعُ لم يعد حكراً على السعوديةِ فقط، بل تجاوزها إلى البحرينِ التي أصدرت تعميماً على جميعِ خطباء المساجد يأمرهم بالكفِّ عن ذكرِ كل ما لهُ علاقةٌ بالعداوةِ مع تل أبيب، سبقَ ذلك محاولةً للتقربِّ من الكيانِ الغاصبِ نادى إليها الأمير البحريني من خلال دعوتهِ إلى إقامة علاقات مع إسرائيل من شأنها الإسهام في إحلال السلام العالمي، وعند هذهِ النقطةِ نتوقفُ أمامَ دعوةٍ أخرى مماثلة لسابقتها في المضمونِ مخالفةً لها من حيث الزمان، والمكان، والشخص الذي تبناها، وهنا أتحدث عن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي دعا من على منبرِ الجمعيةِ العامةِ للأممِ المتحدة في نيويورك الفلسطينيين للتعايش بسلامٍ مع اليهود.
عدم وجود الرادع الذي يمنع الحكام من الإتِّجارِ بقضايا الأمَّةِ، من شأنه إيجاد حريَّةً في التطبيع قد يتم تجاوزها إلى ما هو أشدُّ من ذلك من خلال إقامة علاقات مباشرة مع إسرائيل |
الإماراتُ لم تكن بمنأى عن هذا التطبيع، فبدلاً من حصارِ إسرائيل ومقاطعتها بسبب انتهاكاتها الخطيرة للقانونِ الدولي وحقوق الإنسان، قامت بالتنسيقِ الاقتصادي والدبلوماسي والأمني والعسكري مع إسرائيل حسب ما نشرت صحيفة "ميدل إيست مونيتور" التي استندت إلى تقاريرٍ نشرها موقع ويكليكس تؤكد الدور الكبير الذي يقومُ بهِ سفيرُ الإمارات لدى واشنطن يوسف العتيبة في الدفع بعمليةِ التطبيعِ إلى الأمامِ عبر قنوات سرية وعلنية.
الطامَّةُ الكبرى هي الطريقةُ التي يتم من خلالها تسويق هذا التطبيع، بمحاولةِ حرفَ البوصلة عن العدو الفعلي للإسلامِ والمسلمين، من خلالِ إيهام المواطنَ العربيَ المسلم بأن العدوَّ الفعلي ليس إسرائيل وإنما دول إسلامية أخرى قد تكون قطر، أو اليمن، أو حتى إيران، وهنا أضرب لكم مثالاً يدل على نجاح مثل هذه السياسة الخبيثة، فقد نجحت السلطاتُ السعودية _ وإن بشكلٍ مبطَّن _ في إقناع الرأي العام السعودي بأن إيران هي مصدر التهديد الأول للملكةِ وليست إسرائيل، الأمر الذي نجحَ في إقناع شريحة عريضة من السعوديين بهذةِ الفكرةِ، وهذا ما تجلى من خلالِ استطلاعٍ سريٍّ للرأيِ أجراهُ مركزُ هرتسيليا الإسرائيلي بين الأوساط السعودية، حيثُ أظهرت الإحصائياتُ أنَّ ما يربو على خمسين بالمئة يرونَ في إيران مصدر التهديد الحقيقي، بينما يرى حوالي اثنان وعشرون بالمئة منهم أن داعش هي العدو الأول ، أما النسبة الأقل فقد اعتبروا أنَّ إسرائيل هي العدو الأول ، الأمر الذي يشكلُ كارثةً حقيقية إذا ما استمرت السعودية في تطبيق هذه السياسة الكارثية.
عدم وجود الرادع الذي يمنع الحكام من الإتِّجارِ بقضايا الأمَّةِ، من شأنه إيجاد حريَّةً في التطبيع قد يتم تجاوزها إلى ما هو أشدُّ وأنكى من ذلك من خلال إقامة علاقات مباشرة مع إسرائيل، وهذا ما تحقق في الأردن التي بنت علاقات متينة مع إسرائيل من خلال توقيع معاهدة سلام معها في العام 1994 في لقاءٍ تمَّ عقدهُ في واشنطن بين الراحل الملك حسين ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، حيث أعلنا من هناك عن انتهاء حالة الحرب بين بلديهما وما زال مفعول تلك العلاقة سارياً حتى الآن.
قد يطولُ بنا المقامُ ونحن نتحدث عن صور هذا التطبيع الذي تعددت أشكاله بتعدد من يتبنونه كخيارٍ يحافظون من خلالهِ على الحكمِ الذي تملكُ مقاليدهُ أميركا ومن خلفها إسرائيل، إلا أنَّ ما أود الإشارة إليه هو المآلات الكارثية لهذا التطبيع الذي يتسارعُ بصورةٍ مهولة، وتتسارعُ على إثرهِ النتائجُ التي تبعدنا عن الإسلام أكثر فأكثر، في ظل تعصبٍ أعمى، وتزمتٍ أهوج يحكمُ ما يصدرُ منا من أفعالٍ وأقوال، الأمر الذي يستدعي التنبُّه لما قد يدهمنا من أخطارٍ لها أكبر الأثر علينا كمسلمين يُحتِّمُ علينا إسلامنا طرد الكيان المحتل من أراضي فلسطين المقدسةِ، وهذا ما سيتحقق بإذنِ اللهِ طالَ الوقتُ أم قصُر، من خلال قطع العلاقات مع إسرائيل كونها دولة احتلال وأبارتهايد، ودعم المقاومة الفلسطينية، وتفعيل خيار المقاطعة الاقتصادية الذي سوف يكون له ابلغ الأثر على الاقتصاد الإسرائيلي إذا ما تبنته جميع الدول العربية والإسلامية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.