شعار قسم مدونات

المسؤول عن إفساد الذائقة الوطنية

blogs - عراق
رغم مرور نحو ثلاثة عقود على انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، لكنني ما زلت أتذكر جيداً أين كنت عندما أعلن عن وقف إطلاق نار تلك الحرب. كنتُ في وسط حديقة بيتنا. ذعرتُ يومها من صوت اطلاقات النار التي كانت تصدر من بيوت "جوارينا" فرحاً بانتهاء الحرب. بعدها لم يمر على العراقيين إلا سنتان حتى دخل صدام الكويت. فأدخلنا في حرب لم نسلم من آثارها حتى هذه اللحظة، نتيجة حصار عمل بالعراقيين ما لم تعمل حرب السنوات الثمان.

انقطع العراق عن العالم، وأصبحنا خارج التغطية فعلياً بالمفهوم السائد حالياً. أذكر في ذلك الوقت بالتحديد ذلك الهوس بامتلاك كل بيت جهاز راديو. كان لصوت الإذاعات العراقية التي تبث من بغداد تأثير في تشكيل الذائقة الثقافية والوطنية لدى العراقيين، أسهمت وبشكل جوهري في إشغال الناس وقت فراغهم، وربما يفسر ذلك على أنه محاولة العراقيين لمواكبة التطور والتواصل مع العالم، ولفك العزلة التي كانوا يعيشونها في تلك الفترة. قد يُفَسر أيضاً على أنه جزء من العناد الذي يطغى على طبيعة الشخصية العراقية.

أثناء الحرب العراقية الإيرانية، أطلق صدام حسين اسمي الحسين والعباس على صواريخ استخدمها العراق في الحرب، في إطار رد نوعي ضد المنظومة الفكرية التي اعتمد عليها زعيم الثورة الإيرانية الخميني.

استغلت المعارضة العراقية ذلك الموضوع أيضاً، فأسست إذاعات ومحطات لإيصال صوتها إلى العراقيين في الداخل، وكان صوت تلك الإذاعات يصل إلى العراقيين، رغم التشويش عليها من قبل أجهزة نظام صدام حسين، طبعاً كان عامل انقطاع التيار الكهربائي عن أجهزة التشويش، الأثر الكبير في وصول صوت وصورة إذاعات ومحطات المعارضة العراقية التلفزيونية بدقة أكبر من صوت وصورة محطات الإذاعة والتلفزيون العراقية الرسمية (خاصة في بعض المحافظات).

في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، أطلق صدام حسين اسمي الحسين والعباس على صواريخ استخدمها العراق في الحرب، في إطار رد نوعي ضد المنظومة الفكرية التي اعتمد عليها زعيم الثورة الإيرانية الخميني. فُسر ذلك في وقتها على أنه غزل للشيعة بشكل عام. بالمقابل كانت الأدوات الإعلامية الإيرانية وحتى إذاعات المعارضة العراقية التي تبث من إيران، تُذكَر العراقيين بان صدام حسين أحد أدوات الغرب ضد الإسلام، على اعتبار أنه يتبنى نهجاً علمانياً في إدارة الدولة.

كانت تلك المحطات والإذاعات الإعلامية تضع اسم الشيخ عبد العزيز البدري جنباً إلى جنب مع اسم السيد محمد باقر الصدر، من أجل إثبات أن نظام البعث كان يحارب الإسلام. لا بل كانوا في كثير من الأحيان لا يتحرجون من ذكر معارضين سنة لنظام صدام حسين أمثال؛ محمد مظلوم الدليمي وشاكر فزع الزوبعي وراجي التكريتي والكثير من الأسماء التي شاعت بين العراقيين عن طريق إذاعات أحزاب المعارضة التي كان يصل بثها لأغلب المدن العراقية. والشيء بالشيء يذكر، أمرَ نظام صدام في الأيام الأخيرة من حكمه "بخلع" أجهزة الراديو من كل السيارات التابعة للدولة، خاصة سيارات وزارتي الداخلية والدفاع. في محاولة خائبة لمنع تأثَر منتسبي المنظومة الأمنية بالحرب الإعلامية والنفسية التي رافقت غزو العراق.

إن عزل طائفة بأكملها عن النظام الحالي عبر إلغاء مكانتها وتاريخها وتهميش دورها سوف يؤدي إلى توفير خزان بشري هائل لتنظيمات وأحزاب معارضة للنظام الحالي.

بعد 2003 استلمت تلك المعارضة الحكم، وصار لكل حزب جريدة وإذاعة ومحطة تلفزيونية (إن لم يكن أكثر)، تقيم الندوات وتشارك في إحياء الاحتفالات لتكريم وتأبين من قتل لمعارضته نظام البعث من الطائفة الشيعية الكريمة، وهو أمر يحمد . كان ينتظر من تلك المعارضة أن تسعى في تنشيط ذاكرة العراقيين لكل من عارض نظام البعث، بغض النظر عن قوميته أو مذهبه أو انتمائه السياسي. لكن أن يتم تجاهل تاريخ وسيرة رموز من كان يعارض صدام ونظامه من السنة، سواء كانوا إسلاميين ناهيك عن العلمانيين منهم، فهو أمر لا يمكن تفسيره على أنه نسيان متعمد أو تجاهل سلبي لتاريخ تلك الأسماء فحسب، بل لا أجد ذلك إلا تأكيداً لمهمة الهيمنة الطائفية السياسية، وتكريساً لنهج إتلاف الذاكرة الجمعية للعراقيين، وإفساداً للذائقة الثقافية والوطنية أيضاً.

قد يفوت على أغلب السياسيين أن لهذا الأمر (عواقب) وخيمة. فعزل طائفة بأكملها عن النظام الحالي عبر إلغاء مكانتها وتاريخها وتهميش دورها، ومحاولة إلصاق شتى التهم بها، ومحو كل تضحيات بذلها أناس اختاروا أن يحاربوا نظام البعث ومن بعده تنظيمات إرهابية. فأبسط تلك العواقب، ومن غير إطالة، هو توفير خزان بشري هائل لتنظيمات وأحزاب معارضة للنظام الحالي. وهذا الأمر لا يهدد استقرار النظام الحالي وحسب بل يهدد كيانه ووجوده واستمراره.

فتأمل رعاك الله

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.