مذكرات ميت (2).. مريضُ بالحب في كوةِ الموت

blogs - human
تثاءبتْ نوافذُ البيتِ الغريبِ، تراقصا ًعلى صوتِ البلابلِ التي تشدو الحنين، الوقتُ بالضبطِ قد اخترقَ مسافةً تزيدُ عن عشر ساعات في صلب الموت، أنا الغريب عن جسدي في بلادٍ اسموها لي منفى، وكل نَفَسٍ في هذا المكان الذي يرفضه روحي يشدو بالأشواقِ إلى هناك، إلى ما أراهُ وطني.

أفتحُ النوافذَ وأنظرُ الشمسَ والمكان حولي، وأسألني: هل هي ذاتها الشمس في كلِ الأماكن؟ هل هو دفئها ذاتهُ بكل شجنه، لا يختلف من مكان لآخر؟ هل تختلف شفافية الضوءِ صباحَ هنا وصباحَ هناك؟ هل الكون يستدير بنا ولا يغدرنا ووجوههُ في قلوبنا لا تتغير مع تغير جغرافيةِ أجسادنا؟ يرتعش جسدي! لاختراقِ الغربة في مساماته ويجيبُ بارتجافةِ شوقٍ مبكرة في هذا الموت الذي يسمونه غربة: أن شمس الوطن أكثر دفئًا وأحن حضورًا في مسامات أرواحنا من شمس منفانا، هذه الشمس لا تدني رحمتها منّا، ولا تُقبّل بلطف ضوئها جبينَ قلوبنا، ولا تدفعُ اليأس عن بساط الروحِ فينا، بل تمارس سطوتها وسلطتها مع كل نَفَسٍ تستنشقهُ خلايانا من شفاهِ ضوئها، ولا شيء نتلمسه منها إلا القوةَ والجبروت. 
 

الفقدُ اختبارٌ لا أملك قدرةَ المكوثِ به طويلًا، فقدُ الأوطانِ وجعٌ لا تُدركُ مواجعهُ بالوصفِ أو الكتابة، كيفَ إن كانَ فقدي هو دمشق، وتوقي لها عميقٌ حد التفاصيل.

يأتي الصوت -ووقعُ الرعشةِ الدافئةِ لم يفارقني- مخترقًا جدران البيت المجاور لمنفاي، وبدتْ الموسيقى اختراقًا للمدى: (روحي إليكَ تسافرُ وتذوبُ فيكَ تفاخرُ وأسيرُ أيامي وأشدو من للحبيب يجاورُ؟ يا هائمًا قلبي يطير يا غائبًا عمري قصير فلنغدوا يا عمل جليل لنقابلَ المولى الجميل).

تنهدَ قلبي وكررَ الموسيقى ووقع الكلام في خلجاتي مرارًا قبل أن يجيب: الروح لم يبرح موطنه البتةَ، إنه الجسدُ فقط من غادرَ مجبرًا أرضهُ وموطنه، وانسلخ -الروح- من غلاف الوطن إلى ركن الموت، انسلاخَ الضوءِ من العتمةِ، انسلاخ موتٍ لا أكثر. أتنهدُ بانتهاء الرعشة وصمت الإجابة، ويحدثني فنجان قهوتي الصباحي:  هو الوقت لا يبالي بكَ ولا ينظرُ صحوكَ أمام الحنين. أُجيب: ومن له قدرةُ الخرافات ليصمدَ متجاهلا ً حنينه ! يتململُ الفنجان ويتبع، برر ضعفكَ بفلسفتك المضنية والصمت. ينتهي الحديث، وأعود وحدي مع خيالات الذكرى والحنين.

 

الفقدُ اختبارٌ لا أملك قدرةَ المكوثِ به طويلًا، فقدُ الأوطانِ وجعٌ لا تُدركُ مواجعهُ بالوصفِ أو الكتابة، كيفَ إن كانَ فقدي هو دمشق، وتوقي لها عميقٌ حد التفاصيل، أتوقُ وأنا في العشرِ الساعات الأولى من غربتي لضجيجِ الحي، وللدخان المتعبِ بأحادي أوكسيد الكربون المنبعث من سعال سيارة جارنا، غُصة الحانات بعراك الصراخِ ودفءِ الربيع، وهمسُ الريح في جوفِ سهراتنا.

 

أبدًا ليس من السهل أن تمتطي الوقت بعيدا ًعن وطنكَ، وعتبات الحب فيه، هي دمشق مدينةُ الله، التي أبهرتْ قلوب زوارها، وأسرتْ مسامعَ المتحدثينَ عنها قبل سامعيهم، والمدينةُ التي أنبتتْ للياسمين صخبًا بين صفحات الكتب التي احتضنتْ الحديثَ عنها، إنها دمشق دواءُ العاشقين وعذابُ حنينهم، هي الداءُ العضالِ الذي لا يبرئ منه عاشق ولا يملُ منه مُحب، هي الحب الذي ابتليتْ القلوبُ به، هي درةُ المدنِ وزينةٌ الكواكب على الأرض، أنا مريضُ بها، مريضُ بالحبِ هنا في كوةِ الموتِ التي تطلني على فسحة من الغموض. تنتهي الموسيقى وفنجان القهوةِ ويبقى الحنينُ والحب إلى مدينةِ لا ينتهي.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان