طوقُ الحمامة

blogs حمامة

القلب مضغةٌ في وسط الجسد والروح وهي فؤاد يبصر ويسمع له من الشؤون ما للجسد وهو يتنفس أنفاس صاحبه ويكاد يكون ذاكرة لوحده، يقول الله عز وجل: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" ويقول تعالى: " فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ"، وهنا نجد أن الله تعالى جعل للقلب عملاً فهو يلين ويقسو ويمرض ويخشع.

 

وبهذا فهو عضو له عالمه وتركيبه وأسراره الخاصة، وقد كشف الدكتور ج. أندرو آرمور أخصائي الأعصاب الكندي، أنه حاول التحقق من وجود خلايا عصبية داخل القلب أو مرتبطة به، ويقول د. آرمور إنه اكتشف أن القلب يمتلك نظاماً عصبياً خاصاً به يكوّن ما سماه "عقل القلب" وهذا النظام يعمل باستقلالية عن خلايا المخ، ويفسر هذا العالم بأنه عند زراعة قلب لشخص جديد فإن خلايا القلب الجديد تستعيد ذاكرتها وترسل إشارات من ذاكرتها القديمة إلى مخ الشخص الجديد فيكتسب هذا الشخص مشاعر ومهارات مختلفة لم تكن تميز شخصيته السابقة وكأنه أصبح بذاكرتين.

 

وقد تزايد الاهتمام بظاهرة "ذكاء القلب" أو "عقل القلب" في الأبحاث الطبية المعاصرة لتفسير بعض الظواهر الغريبة التي ارتبطت بعمليات زراعة القلب، فنجد أحدهم والذي زُرِع له قلب جديد يحترف كتابة الشعر بفن ومهارة متناهية وهو الذي كان لا يقوى أن يكتب نصاً أدبياً واحداً قبل. ونجد فتاة اخرى أصبحت تعشق موسيقى من نوع معين كان يحبها صاحب القلب المتبرِع، ومن القصص الكثير.

 

فكيف لعضو بديع الخَلق والتصوير أن يحمل عالماً مصوراً ينبض في صدورنا ونتجاهل أحساسنا به وبما يمليه علينا. أردت ان أتحدث هنا عن ذلك الشعور الذي يميز القلب عن سواه ويكاد يكون القلب سيده وقائده، كيف لنا ألا نحبّ وقد خلقنا لهذا وكيف لنا ألا تعزف قلوبنا الحانها المفضلة وتترنم ترانيمها وتدق مرةً تلو الاخرى لأجل هذا القلب الصغير الغافي بين ضلوعنا! ألم يأمرنا الله أن نحبه ونحب رسوله ونحبّ شرع الله؟ ألم تخلق حواء من ضلوع آدم التي تحرس قلبه فكانت نصفه الآخر وسَكَنه فأحبها وأحبته؟ ألم يسأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عائشة"

 

كم جميل أن تستلذ أرواحنا وتنزل قلوبنا عن عرش غرورها فتتنفس بعض الهوى، والهوى ألوانٌ، جميلٌ أن تطلق قلوبنا أجنحتها، أن تطير في رحب هذا الكون تنشر عبقها وحبها في كلّ مكان فلولا الشعور، الناس كانوا كالدمى، للقلب ِ سلامٌ وسلام.

ألم يحب نبينا إخوانه وأصحابه ويظهر لهم حبه؟ أولم يكن حب المسلمين لبعضهم دليل إيمانهم وصدق إسلامهم؟ وعلى هذا الحال وأحوال الحب كثيرة كيف لقلوبنا النابضة بالجمال ألا تخلق لتتذكر كل من مرّوا على ضفافها فارتشفوا الحب بصوره وألوانه وطهره وبلسمه الشافي، نحن على اختلافنا بشرٌ من جسد وروح وعقل وإذا كانت لقلوبنا أعينٌ وآذان أوليس حريٌّ بها أن ترى وتسمع وتعقل فتصوغ الحب ألواناً وأطيافا وتغرد لأرواحنا أننا ما زلنا احياء.. ألا يفحص الطبيب قلوبنا عند السكرات فإن صمتت متنا وإن رجفت قليلاً أُعلِنا احياءً وإن كنا لا نصحو من سباتنا.

 

والحب للجسد غذاؤه ودواؤه، فكتب علي بن حزم الأندلسي "طوق الحمامة" عن الأُلف، والأُلّاف يتحدث فيه عن ماهية الحب وعلاماته ويصف حال المحبين فيثني عليهم حيناً ويرثي حالهم أحوالاً، وإن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول:" اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" ويقصد أنه يعدل بين نسائه جميعا إلا حبه فكانت عائشة رضي الله عنها أحب أزواجه اليه.

 

وقد كتب ابن سينا رسالة في العشق (وهو شكل مفرط من اشكال الحب) يصف اعراض الحب وعلاماته وطرق معالجته ، وقد سبقه في ذلك أبقراط وجالينوس ، فالحب إذن علةٌ ودواء وهو تناقضٌ جميل أحياناً يجلب للروح سرورها وارتياحها ، ولم يكن إسلامنا ليعترض ما خلقه الله في ذواتنا وإنما نهانا أن نستسلم لزيف الحب فلا نحكم عقولنا وضمائرنا فنستبيح لذته ونقع في معصية الهوى، قال ابن الجوزي" بحر الهوى إذا ما مدّ أغرق، وأخوف المنافذ من الغرق فتحة البصر" فالحب بين اثنين له ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لَم نَرَ لِلمُتَحَابَّينِ مِثْلَ النِّكَاحِ" فيستقيم هوى القلب والروح.

 

أمتع نفسي دائماً فأقرأ قصص المتحابين وأرق لها وإن الْقُلُوبَ بَينَ أُصْبُعَينِ مِن أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيفَ يَشَاءُ، فها هي زينب رضي الله عنها تنتظر زوجها العاص بن الربيع عشرون سنة حتى يعلن اسلامه وهي التي قالت له انا أعينك على الحق حتى تقدر عليه، وفي سماء بني أمية يلوح نجم قيس بن الملوح وابنة عمه ليلى فيقول للعشاق:

لو سيل أهل الهوى من بعد موتهم …….. هل فرجت عنكم مذ متم الكرب

لقال صادِقُهُمْ أنْ قد بَلِي جَسَدي ……… لكن نار الهوى في القلب تلتهب

جفت مدامع عين الجسم حين بكى ……. وإن بالدمع عين الروح تنسكب

وتحت ظلال قرطبة يرى ابن زيدون الأميرة ولّادة فيحبها ويلقي كلا منهما شعره للآخر.

 

كم جميل أن تستلذ أرواحنا وتنزل قلوبنا عن عرش غرورها فتتنفس بعض الهوى، والهوى ألوانٌ، جميلٌ أن تطلق قلوبنا أجنحتها، أن تطير في رحب هذا الكون تنشر عبقها وحبها في كلّ مكان فلولا الشعور، الناس كانوا كالدمى، للقلب ِ سلامٌ وسلام.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان