هلّا حدثتموني عن الثلاثينات، أهي كالعشرينات؟ بداية تجارب، بناء ذات، وإيهام طول عمر.. أم هي بداية حصاد، اتزان عقل، وسرعة زمان؟
جميل إحساس العبور من مرحلة ما قبل العشرينات إلى العشرينات وسنواتها. فكل منا ذاق إحساس نشوة الدخول في عمر الزهور وبداية الشعور بالنضج، امتلاك الرأي والثقة.. كثير من الشباب العشريني من دخل غمار البحث عن ذاته، عن هويته، ليصنع لنفسه كيانا يثبت فيه وجوده على هذه الأرض المقدسة باختلاف نواميسها الفكرية، الاجتماعية، العقدية، السياسية، والعرقية..
وسط هذه الاختلافات، تتجاذب قوى خفية من هم في مرحلة الشباب، مستغلة قلة خبرتهم في التعرف على حيل ومكر بعض التيارات التي ترى نفسها الأصلح على هذه الأرض، فهي تمجد فكرها وتروج له بكل الطرق. فسرعان ما ينزلق الشباب وراء هاته المؤامرات إن لم يوجد من الراشدين من ينصحوهم بخبرتهم ونضجهم.
أوجب الواجب هو مجالسة العلماء وأخذ العلم عنهم مشافهة، مع تفادي إجابة الناس والجدال من غير علم، فما نحن إلا طلاب شريعة، ويبقى هذا الدين رفيعا لا يمكن أن يخوض فيه كل الناس، بل له أهله. |
فبالرغم من الانزلاقات التي قد تحدث لكل شاب عشريني، فقد تعتبر تجربة سيخرج منها مستفيدا لا محالة. عارفا بطباع البشر ونواياهم الصادقة والخبيثة، مدركا لخطورة اتباع أي تيار وتبني أفكاره، متيقنا أنه في نظرهم لا يعدوا أن يكون رقعة شطرنج يحركوها أينما وكيفما شاؤوا.
فترة الشباب هي فترة العطاء اللامحدود، فالعديد منا من استغل وقت فراغه فيما يصطلح عليه بـ "العمل التطوعي"، مؤمنين بأنه ليس عملا نعطيه المتبقي من أوقاتنا. إنما هو من ضمن أهداف حياتنا التي تتضمنها رسالتنا. يكشف لك العمل التطوعي ما مدى أهمية وقتك، إمكانية إنجازك للعديد من المهام. فستتعلم بهذا كيف تخطط ليومك، لأسبوعك. كيف تنظم مواعيدك، تتخلص من كل ما هو غير مفيد ومضيع للوقت، ترتب أولوياتك.. كما يقربك من الناس واحتياجاتهم، من مشاكل مجتمعك، من أحلام وأماني لأناس مختلفين عنك.
ترى ما لديك هو أمنية بالنسبة للآخر. ترى الشقاء، العبث، الحرمان، الحب، العطاء، الصدق، البراءة والوفاء. تتجلى لك الأنفس وطبائعها، ترى الحياة بأوجه مختلفة. يعطيك العمل التطوعي أيضا فرصة التعرف على ذاتك. فستعلم يقينا أن لكل منا قدرات ومزايا داخلية، عليه تنميتها وإخراجها للوجود. فتكون بذلك مميزا عن غيرك.
وأهم ما يقدمه العمل التطوعي لنا هي تلك الروحانيات التي نعيشها، وذلك القرب من الله عز وجل وتلك الحلاوة الإيمانية لما نتذوقها، وشعورك بأنك خادم عند الله عز وجل وتخدم عباده. إحساس لا يمكن وصفه إلا لمن ذاق وعرف.
في هذه المرحلة من العمر، يكون الحماس في أعلى ذروته. فيكون الشاب متحمسا لتعلم العديد من المهارات من مختلف الميادين، كل حسب ميولاته، وحسب ما تأثر به من خلال شخص أو مشاهدته عنها.. لكن الخوف من أن تجعل هذا الحماس مجرد نزوة وتزول، بل يجب إتقان على الأقل مهارة أو مهارتين لكي لا يصير إنفاق أوقاتنا وأعمالنا عبثا وفوضى.
كما يوجد حماس في تطوير الذات، يوجد أيضا حماس في التدين. يلاحظ الكثير أن هذه الفترة هي فترة التدين اللافت بشكل كبير. التوجه نحو التدين وبناء علاقة مع الله هو نضج فكري وقلبي، لكن لن يكتمل هذا النضج إلا بالعلم بالله. فلا يمكن أن يصير المتدين متدينا حقا لقراءته لكتاب أو كتابين أو حتى عشرة كتب. لأن المتدين الجاهل بالعلم الشرعي يؤذي الدين من حيث لا يدري. وكم من أفكار واعتقادات خاطئة عن الدين يتحملها متدينون لا علم لهم بالدين.
المتدين صورة، سلوك وفكر يمشي على الأرض، فإن لم تحسنهم جميعا سقطت. فأوجب الواجب هو مجالسة العلماء وأخذ العلم عنهم مشافهة، مع تفادي إجابة الناس والجدال من غير علم، فما نحن إلا طلاب شريعة، ويبقى هذا الدين رفيعا لا يمكن أن يخوض فيه كل الناس، بل له أهله من يسهرون على تعلمه وتعليمه.
لن تسأل في قبرك إن أنت تزوجت أم لم تتزوج، بل ستسأل عما تضاف إليك من تكاليف ومسؤوليات الزواج مع التكاليف الأخرى التي سنسأل عنها جميعا وهي العمر، المال، الشباب والعلم. |
في الأخير لا ننسى أن هذه الفترة فترة الشراكة بين شاب وشابة بميثاق الزواج. هذا الميثاق الذي أطلق عليه الله عز وجل في القرآن الكريم ميثاقا غليظا. يعني أنه ليس بالأمر الهين كما يعتقده بعض الناس من مجتمعنا، على أنه الجمع بين متحابين أو بين شخصين لهما فقط الرغبة في الزواج. هذه الشراكة هي شراكة فكر وروح قبل كل شيء، شراكة أهداف، رؤيا، تربية، ثقافة، تدين وخلق. هذا يعني أن اختيار الشريك في الحياة لمهمة صعبة لا يمكن أن تدني من صعوبتها الخوف من التأخر في الزواج أو تخطي مرحلة الإنجاب، إنما الأهم هو اختيار من يصلح والأجدر لإكمال الطريق.
فلن تسأل في قبرك إن أنت تزوجت أم لم تتزوج، بل ستسأل عما تضاف إليك من تكاليف ومسؤوليات الزواج مع التكاليف الأخرى التي سنسأل عنها جميعا وهي العمر، المال، الشباب والعلم لقوله -صلى الله عليه وسلم- "لا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ" جامع الترمذي.
وفي آخر كلامي، أقول أنه مهما بلغنا من العمر، نحمد الله على ذلك ونسأله عز وجل أن يبارك لنا فيه، ولا نلتفت إلى من يشعرونا باليأس من كبر السن حتى وإن كنا في الأربعينات، الخمسينات، أو الستينات وغيرها. بل علينا أن نسعد بكل مرحلة من عمرنا وما فيها من إنجازات. لأن العمر هو زمن يقاس بعرضه لا بطوله، يقاس بما أنجز وحقق فيه صاحبه من أعمال، يتوقف فقط حينما يحين أجله.
هذه كانت باقة متواضعة من التجارب مني أنا التي ستغادر العشرينات إلى الثلاثينات بإذن المولى. فهلا أخبرتني عن الثلاثينات؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.