شعار قسم مدونات

صَدَق "الإسرائيليون" وكذب الفلسطينيون

blogs - نتنياهو وعباس
يردد الإسرائيليون دوماً بعدم وجود شريك فلسطيني للسلام، وهو مبررهم لعدم استئناف المفاوضات التي يسعى لها الطرف الفلسطيني الرسمي بلا كلل. ماهي قصة شريك السلام؟ ولماذا يمكن اعتبار الإسرائيليين صادقين هذه المرة؟
التجربة التاريخية لعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين مرت بمراحل عديدة لا بد من المرور عليها كي نجيب عن السؤال. يقول أحمد قريع إن الفلسطينيين طرحوا مبادرة مبكرة للسلام منذ 1974 حين تبنى المجلس الوطني الفلسطيني برنامج النقاط العشر. دفع هذا "التنازل" حينها تجاه اعتراف عربي بمنظمة التحرير كممثل للفلسطينيين في مؤتمر الرباط، ثم دولي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام نفسه.

كانت الانتفاضة أمل الفلسطينيين في إخراج الحالة الفلسطينية من عنق الزجاجة، لكن الانتفاضة حملت تعقيداً مركباً لعرفات.

عرفات كان يتقن بمهارة عالية تحويل المآزق إلى انتصارات، "فمبادرة سلام النقاط العشر" حولها إلى انتصار واختراق للمجتمع الدولي بخطاب غصن الزيتون والبندقية، وفي عام 1988 حين قبل بحل الدولتين أعلن معها استقلال دولة فلسطين في هزلية لا تزال تمثل مشهداً من مسرح العبث الفلسطيني إلى اليوم.

عانت منظمة التحرير من عزلة في نهاية الثمانينيات، حتى إن القمة العربية في عمان عام 1987 وضعت القضية الفلسطينية في أسفل جدول الأعمال لأول مرة، واستقبل الملك حسين كافة الزعماء العرب بنفسه باستثناء عرفات. كان أبو عمار على خلاف عميق مع سورية الأسد. واللبنانيون وقعوا اتفاق الطائف عام 1989 وأنهوا حربهم الأهلية ومعها دور منظمة التحرير كلياً في لبنان. كل هذا ترافق مع انتهاء الحرب الباردة وتحولات بنيوية في النظام الدولي لصالح الغرب وبالتالي إسرائيل.

كان وضع المنظمة قاسياً وآمالها في إعادة إنتاج صراع ما مع الاحتلال "أو مع غيره من الأنظمة العربية" قد بدأ يتلاشى. في هذه الأثناء كانت الانتفاضة أمل الفلسطينيين في إخراج الحالة الفلسطينية من عنق الزجاجة، لكن الانتفاضة حملت تعقيداً مركباً لعرفات، ففي حين أنها أعادت صورة المناضل الفلسطيني إلى الواجهة العالمية، وهو ما مثل حبل نجاة من جانب للمنظمة المأزومة حينها، فقد كانت الانتفاضة أخطر تهديد على قيادة عرفات للمنظمة، بدأت تنمو قيادة فلسطينية محلية في الداخل شكلت القيادة الموحدة للانتفاضة وكانت من كافة فصائل المنظمة في الضفة وغزة تقريباً بدون توجيه من قيادة الخارج، وتمكنت المنظمة من احتواء القيادة الموحدة للانتفاضة ودفعتها لإصدار بيانها الأول برقم 3 كي يكون رقم 1 و 2 هما بيانا المنظمة اللذان صدرا من تونس حول الانتفاضة.

كان نمو قيادة الداخل مؤرقاً فعلياً لعرفات. في العام 1989 طُرحت مبادرة إسرائيلية-أمريكية لإجراء انتخابات في الضفة وغزة بهدف إخراج ممثلين عن الشعب الفلسطيني يمكنهم التفاوض على حكم ذاتي مع إسرائيل التي أيقنت بعدم وجود جواب عسكري على سؤال الانتفاضة الفلسطينية المتنامية، كانت هذه المبادرة التي بدأت خطوات عملية على الأرض تمثل أخطر ما يمكن أن يواجهه عرفات في حياته السياسية.

ثم جاء غزو العراق للكويت ليخلط أوراق المنطقة كلها، فتوقفت مبادرة الانتخابات في الداخل، فيما أعلن عرفات دعمه لصدام حسين أملاً في استعادة تأثيره في ظل التفاعل الشعبي مع قصف تل أبيب بالصواريخ العراقية، وأملاً بأن صدام المتوقع أن يستولي على ربع نفط العالم وأكثر من ثلث احتياطاته الدولية بعد استقرار سيطرته على الكويت سيكون اللاعب الإقليمي الأهم، وسيعود عرفات حينها من طريق بغداد إلى الواجهة، لكن حرب الخليج مطلع العام 1991 ضاعفت خسائر عرفات بشكل هائل، فمن جانب خسر الفلسطينيون العراق كمركز سياسي وثقل عربي، وخسر دول الخليج العربي كمركز مالي كان يمثل شريان حياة حقيقي للمنظمة وعشرات آلاف العائلات، والخيار بات معبداً لقبول مبادرة أمريكية للسلام بعد أن نجحت مبادرتها للحرب في المنطقة.

ذهب الفلسطينيون والعرب جميعاً إلى مؤتمر مدريد الذي اشترط الإسرائيليون عدم حضور المنظمة باسمها، بل وتدخلوا بأسماء من سيحضر ووضعوا شروطاً مذلة بأن لايكون أحد منهم من مخيمات اللاجئين ولا من القدس الشرقية ولاعضواً في منظمة التحرير في الخارج، ورغم أن هذا الإذلال تم تجاوزه ببعض التعديلات التي أبقت على التعالي الإسرائيلي، حضر الفلسطينيون في وفد مشترك مع الأردن ولم يسمح لهم بتمثيل مستقل، وذهب الطرفان إلى المفاوضات وتعثرت خطواتهم كثيراً أمام قضايا برتوكولية وإجرائية هنا وهناك، وقضايا تفصيلية يريدها الإسرائيليون كأولويات، ولكن حماسة عرفات لتوقيع اتفاقية سلام قبل انفراط الأمور من بين يديه دفعه لإرسال وفد يفاوض سراً في العاصمة النرويجية أوسلو، حيث حققت تلك المفاوضات اختراقات خلال شهور قليلة فقط في العام 1993 وبشكل فاجأ الجميع، وصل الطرفان لاتفاق أوسلو بلا دولة ولا حلول لأي قضية مركزية، وإنما فقط إطار تدخل من خلاله قيادة المنظمة إلى الأراضي الفلسطينية، وكان ذلك أهم ما يريده أبو عمار.

الإسرائيليين اقتنعوا قبل "شركائهم" أن قرار التوقيع بيد السلطة وقرار السلام بيد الشعب، وفي هذه صدق الإسرائيليون وكذب "ممثلونا" الفلسطينيون على أنفسهم وعلينا.

في العام 2005 زار سورية المرحوم عبد الله الحواراني وكان عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وعلى هامش أحد المؤتمرات قال "لقد نصحنا عرفات وقلنا له لماذا لا نترك ممثلي المنظمة في الداخل يوقعون الاتفاق وأنت تعطيهم الغطاء من الخارج كرئيس للمنظمة، فيبقى لديك خط رجعة في حال فشل الاتفاق". كان رد عرفات حاسماً ومختصراً وعصبياً: "اللي بوقع هو اللي بستلم"، فشل الاتفاق، ولم يمنع أوسلو وما تلاه من اتفاقات الأمور من أن تتدهور لاحقاً، ولم يتحقق السلام لأحد، والسبب أن الاتفاق تم بدافع المخاوف الذاتية لقيادة عرفات الفردية وليس بدافع المطالب الموضوعية للشعب الفلسطيني الذي بقي يناضل.

كل ما تقدم هو لنقول إن الإسرائيليين اليوم لا يؤمنون بإمكانية عقد اتفاقية مجدية رغم يقينهم أن محمود عباس جاهز للتوقيع مقابل أن يأخذ دولة ولو في الطابق العلوي للمقاطعة. لكن التجربة تقول إن عقد الاتفاقيات وتوقيعها ليس هو الذي يأتي بالسلام. وإنما وجود شريك قادر على إقناع كل الفلسطينيين بخياراته عبر مؤسسات تمثيلية فاعلة، وبدون ذلك لا أمل من إمكانية تنفيذ ما يلتزم به، وهذا ما تعجز عنه السلطة سواء بمؤسساتها وتنظيماتها، أو بعصا ماجد فرج وأجهزة آمنه.

قناعة الإسرائيليين اليوم أن عرفات بكل ما مثله من مكانة تاريخية لم يتمكن من منع الهجمات ضد إسرائيل، وهناك من يقول إنه تغاضى عنها كأوراق لعب، لكن متأخرة جداً، في التفاوض، فما هي قدرة محمود عباس فرض حالة سلمية على الفلسطينيين خاصة أنهم يقعون تحت إجرام مزدوج من الاحتلال وشريكه المفترض. الخلاصة في هذا أن التمثيل الحقيقي للفلسطينيين هو الذي يمكن أن يؤمن به الإسرائيليون.

وبغض النظر عن إيمان الممثل الفلسطيني الحقيقي بمثل هذه المهازل، وهذا قد يفسر جزئياً لماذا تركت إسرائيل ومعها المجتمع الدولي انتخابات العام 2006، أن تسير بمعايير محايدة، حيث كان مأمولاً أن تخرج فتح بنتائج تمنحها تمثيلاً يمكنها من إعادة تدوير العجلة على طريق معبدة. وآخر ما طرحه وزير الحرب الإسرائيلي السابق موشي يعلون في مجلة الفورين أفيرز "Foreign Affairs" بعددها الأخير، أن السلام مع الفلسطينيين لا يمكن بناؤه من أعلى إلى أسفل، ويجب تبني استراتيجية من أسفل إلى أعلى، لأن الإسرائيليين اقتنعوا قبل "شركائهم" أن قرار التوقيع بيد السلطة وقرار السلام بيد الشعب، وفي هذه صدق الإسرائيليون وكذب "ممثلونا" الفلسطينيون على أنفسهم وعلينا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.