شعار قسم مدونات

عندما نفقد البوصلة

blogs - غرناطة المغرب
في عام 422هـ/1031م أعلن أبو الحزم بن جهور -الوزير في دولة الخلافة الأموية في الأندلس- موت الدولة الأموية. هذا الإعلان كان بمثابة محفز ومشجع لبعض الأمراء وزعماء بعض العائلات ولشيوخ بعض القبائل وغيرهم من التجمعات لإعلان الاستقلال وتأسيس كيانات ودويلات متفاوتة المساحة الجغرافية. وقد اصطُلِحَ تاريخياً على تسمية هذه الكيانات بدول الطوائف أو ملوك الطوائف.

لا شك أن سقوط الخلافة الأموية في الأندلس كان حدثاً غير عادي، لكنه لم يكن حدثاً غير متوقع، فقد عانت الخلافة الأموية في العشرين سنة الأخيرة من عمرها من مؤامراتٍ وصراعات داخلية بين أبناء الأمويين بحثاً عن السلطة والتمكين، وقد ترتب على هذه الصراعات ضعفاً متسارعاً في قوة الدولة وسلطتها على أركانها، حتى جاءت اللحظة التي فقدت فيها هذه الدولة أي معنى للسلطة أو القوة.

من الواضح أن تشرذم المسلمين في الأندلس وتغليبهم المصلحة الشخصية والقومية والعائلية والعرقية والإثنية قد وفرت لمملكة قشتالة فرصة ذهبية لم تتوقعها يوماً ماً.

وأصبحت الأندلس بعد ذلك اليوم دولاً ودويلات صغيرة وضعيفة سميت بأسماء عائلات أو سلالات أو عرقيات من يحكمها: دولة بن عباد في إشبيلية ودولة بنو جهور في قرطبة ودولة بنو زيري في غرناطة ودولة بنو ذو النون في طليطلة ودولة بني حمود في مالقة ودولة بنو الأفطس في بطليوس… والقائمة تطول. من المحزن أن تمزق جسد الكيان الإسلامي الواحد في الأندلس وتفرقه إلى دويلات زاد عددها عن العشرين قد أوجد ضعفاً من الصعب أن يوصف في هذه الكيانات السياسية الصغيرة الناشئة.

وقد كان ضعف هذه الدويلات مبرراً لبعضها في الاستعانة على بعضها الآخر بأعداء المسلمين التقليديين، وهي الممالك المسيحية في شمال الأندلس، وبالأخص مملكة قشتالة. علاوة على ذلك، أدى ضعف هذه الدويلات إلى قبول دفع الجزية إلى الملك ألفونسو السادس ملك قشتالة، حيث شكل دفع الجزية أعلى درجات المهانة والخضوع. من الواضح أن تشرذم المسلمين في الأندلس وتغليبهم المصلحة الشخصية والقومية والعائلية والعرقية والإثنية قد وفرت لمملكة قشتالة فرصة ذهبية لم تتوقعها يوماً ماً. لذلك، استغلت مملكة قشتالة هذه الأوضاع المزرية في دول الطوائف لفرض هيبتها وسلطتها.

بل لقد وصل الحال في أن يُرسل الملك ألفونسو زوجته الحامل مع وزيره إلى دولة بنود عباد كي تضع مولودها في جامع إشبيلية، وكان الملك ألفونسو يظن أن هذا الطفل الذي سَيولَد "ملك المستقبل" سوف يضمن ولاء المسلمين وطاعتهم على اعتبار أنه وُلدَ في مسجدهم. لكن كما يُقال، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد حركت هذه الحادثة نخوة المسلم وعزته في قلب حاكم إشبيلية المعتمد بن عباد، وشعر أن فرقة المسلمين بعد سقوط عنوان عزتهم (الخلافة) كانت سبباً رئيسياً في استئساد أعدائهم. لذلك رفض المعتمد طلب ألفونسو وقتل وزيره، ومن ثم عزم على أن يعيد اتجاه البوصلة إلى مكانها الصحيح، فقرر هو وملك بطليوس المتوكل على الله بن الأفطس دعوة ملوك وحكام دول الطوائف للاجتماع لإيجاد حل.

لم تنته إلا بعد 4 أعوام من تاريخ هذه المعركة وعلى يد القائد يوسف بن تاشفين، الذي رجع إلى الأندلس مرة ثانية بناءً على فتاوى بعض الفقهاء من أمثال الإمامين الغزالي والطرطوشي.

واقترح المعتمد بن عباد طلب النصرة والمعونة من دولة المرابطين في المغرب، تلك الدولة الناشئة والقوبة والتي كان يقودها القائد القوي يوسف بن تاشفين. لكن للأسف، دائماً ما يظهر في كل وقت وكل زمان أصحاب المصالح الشخصية الذين لا يجدون في تقديم مصلحة الفرد على مصلحة الأمة أي مشكلة، لذلك اعترضت مجموعة من أمراء هذه الدويلات، معللين أن الاستعانة بيوسف بن تاشفين سوف يترتب عليها أن يسيطر هذا الأخير على الأندلس. وكأن لسان حالهم يقول الفرقة مع سيادة ولو كانت اسمية أفضل من الوحدة بلا سيادة.

في ذلك الموقف، كان لا بد من المعتمد بن عباد في أن يضع حداً لهؤلاء المثبطين وأصحاب المصالح الشخصية، وأخبرهم بأنه يقبل أن يكون راعياً لجِمال يوسف بن تاشفين ولا يقبل أن يكون راعياً لخنازير ألفونسو.

لقد استجاب يوسف بن تاشفين لدعوة النصرة وهزم المسيحيين في معركة الزلاقة عام 1086م، وقد شكلت هذه المعركة دفعة معنوية للمسلمين وأعادت لهم عزاً طالما فقدوه، وردت إليها مساحات شاسعة من الأراضي التي فقدوها من قبل. لكن علة التقسم والشرذمة لم تنته إلا بعد 4 أعوام من تاريخ هذه المعركة وعلى يد القائد يوسف بن تاشفين، الذي رجع إلى الأندلس مرة ثانية بناءً على فتاوى بعض الفقهاء من أمثال الإمامين الغزالي والطرطوشي وغيرهما، حيث وجد هؤلاء العلماء أنه طالما أن الأندلس مقسمة بين كيانات سياسية ضعيفة ومتناحرة فستبقى عرضة للخطر المسيحي، وأن تشرذم المسلمين لم ولن يكون وسيلة للفوز أو النصر في أي حال.

لقد انتهى عصر ملوك الطوائف بعد أن استمر ما يقارب الستين عاماً، ولم يكن لهذه المرحلة السوداء من تاريخ المسلمين في الأندلس لتنهي إلا عندما علم المسلمون حقيقة العلة والمشكلة، وأن النصر لا يأتي مع الفرقة والتشرذم. وأن تغليب المصالح الفئوية والحزبية والقومية والوطنية دائما وأبداً سوف تكون من اللبِنات الرئيسية لتكريس الهزيمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.