مآلات استراتيجية النضال الديمقراطي من داخل المؤسسات
لنعد شيئاً ما إلى الوراء، ولننعش الذاكرة القريبة لنقارب أجوبة عن هذه الأسئلة.. لنتتبع القصة، حزب الاتحاد الاشتراكي الذي انطلقت مشاركته في إطار المعارضة في الثمانينات والتسعينات لتصل إلى ترأس الحكومة أواخر التسعينات، سرعان ما بدأ العد العكسي لتحجيم هذه المشاركة مع حكومة جطو بعد انتخابات 2002، حيث اكتفى الحزب بالمشاركة في الحكومة دون ترأسها، ثم استمر مسلسل هذا التحجيم مع حكومة عباس الفاسي، ليخرج بعدها الحزب الذي أسس لاستراتيجية النضال الديمقراطي المرتكزة على النضال من داخل المؤسسات، وقد خسر ذاته التنظيمية والعديد من رموزه وأطره بل ومصداقيته الشعبية، الأمر الذي جعل تدرجه النضالي تدحرجا نحو فقدان مكانته الشعبية المعتبرة وقدرته التعبوية الجماهيرية ومناطق جغرافية بكاملها كانت معقلا انتخابيا له.
هو نفس النموذج يتكرر وكأننا أمام ماكينة لوغاريتمية من الحالات التي كل واحدة تفضي إلى أخرى بشكل تلقائي ومسير، وقاعدة هذه الماكينة الأساس: " دعه يشارك دعه يتدحرج حتى يتحلل"..
المقاطعة الانتخابية الواسعة لانتخابات 2007 أثرت في سلوك الدولة، لم تحسن معالجة الخطر الذي أنذر به، حيث عوض أن تقبل السلطة السياسية على الشروع في إصلاحات جذرية، اختارت أن تهرب إلى الأمام بمعالجات من جنس طبيعتها الانفرادية. |
إن النسق السياسي المؤسساتي الرسمي لا يسمح بغير هذه القاعدة في القبول بمشاركة من هو ليس من جنس هذا النسق الرسمي. إنه نسق مؤسس على بنية دستورية تحميه "ملكية تنفيذية"، وبنية سياسية تحصنه "مشهد سياسي متحكم في عناصره بفعل عمليتي الاحتواء والمنع اللتين يقومان عليها خصوصا مع إشراف وزارة الداخلية على تأسيس الأحزاب السياسية في إطار قانون الأحزاب"، وبنية انتخابية لا تخرج عن المتوقع رسميا "إشراف وزارة الداخلية على الانتخابات من أولها إلى آخرها"، وبالتالي فمن اشتغل داخل هذا النسق وضيق خياراته فيه، لن يعدو أن يكون سوى إحدى الحالات:
1-أقلية مشاكسة وغير مؤثرة، وللأسف لم تعد حتى هذه الأقلية موجودة في برلمان انتخابات 2011..
2-معارضة برلمانية تتهيأ لمرحلة مقبلة لترويضها "نموذج الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال سابقا" أو لظهورها كبديل خادم للسلطة الفعلية أكثر "نموذج بعض الأحزاب الإدارية سابقا أو بعض الأحزاب اليمينية المحافظة في برلمان انتخابات 2002 و2007"..
3-أغلبية حكومية تقضي فترتها ليتآكل رصيدها الشعبي مع تدبيرها للشأن العام "الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال سابقا وحزب البيجيدي حاليا"..
هل يعني هذا نهاية تاريخ النضال الديمقراطي عموما؟
لنسترجع شيئاً ما الذاكرة القريبة مرة أخرى: بعد انتخابات 2002 التي كانت فيه نسبة المشاركة تقريبا 51 بالمئة، وتنصيب حكومة جطو ضدا على ما سمي آنذاك بالمنهجية الديمقراطية، سنكون أمام حكومة خليط غير متجانس، سننفتح على مشهد انتخابي وبرلماني تغيب فيه معارضة برلمانية قوية تمثيلا وخطابا، مما مهد إلى اتساع رقعة الفراغ السياسي من داخل النسق السياسي الرسمي، لفائدة اتساع رقعة التذمر الشعبي من عملية انتخابية فرغت من مضمونها.
هذا الفراغ السياسي الذي ستعبر عنه نتائج انتخابات 2007 الكارثية حيث ستصل نسبة المشاركة إلى 37 بالمئة تقريبا، والتي أكدت أن تيار المقاطعة اتسع وبشكل واعي إشارة أساسية أن نسبة كبيرة من المسجلين في اللوائح الانتخابية آنذاك سحبوا بطائقهم الانتخابية، مما جعل السلطة السياسية الفعلية تراجع أوراقها، وتعمل على تنزيل سيناريو التحكم المباشر في المشهد الانتخابي من خلال الدعم الرسمي الذي تلقاه الوافد الجديد إبان تأسيسه حزب البام، ملأً للفراغ السياسي وتحفيزا لنخب جديدة "يسارية ويمينية" في الانخراط في هذا الحزب الجديد، وعوض أن يؤدي هذا السيناريو إلى استدراك كارثة انتخابات 2007، فهو أسهم بشكل كبير في إنضاج حركة الشارع التي تأثرت بسياق ربيع الثورات في تونس ومصر وليبيا.
المقاطعة الانتخابية الواسعة لانتخابات 2007 أثرت في سلوك الدولة، وأشعلت ضوءا أحمر لديها لم تحسن معالجة الخطر الذي أنذر به، حيث عوض أن تقبل السلطة السياسية على الشروع في إصلاحات جدرية لبنية الدولة دستوريا وسياسيا والانخراط في إصلاحات ديمقراطية تعالج مسألة العزوف السياسية ورتابة المشهد السياسي والبرلماني والحكومي، اختارت أن تهرب إلى الأمام بمعالجات من جنس طبيعتها الانفرادية، فكان اشتعال جدوة الحراك الفبرايري.. وهذا الحراك الفبرايري كان إصلاحيا في مطالبه أي أنه راهن من خلال مطالبه تغييرا ديمقراطيا في الدولة وليس تغيير الدولة كما يروج دعاة الفوبيا منه.
ما بعد الحراك وأثناءه، سينتصب فاعل سياسي جديد/قديم متمثل في حزب العدالة والتنمية، ليسهم بشكل كبير في إخماد جدوة هذا الحراك وفي التقدم بأطروحة "انا من سينقذ البلاد والدولة والسلطة من الهبة الشعبية لحراك 20 فبراير".
ستشتغل "الماكينة اللوغاريتمية" من جديد، إشراك فاعل العدالة والتنمية في إدارة الشأن العام بعد انتخابات 2011 وترأسه للحكومة، ثم بعد انتهاء صلاحيته أو قربها قد يكون إشراكه دون ترأسه، ثم بعدها قد يأتي تحجيم إشراكه حتى يتحلل ما تبقى مما تبقى مما تبقى من رصيده الرمزي والشعبي، ومع هذا التحلل تتجدد دورة انتعاشية لمسار النضال الديمقراطي الذي يحمل الإدانة الضمنية لهجانة النظام السياسي غير الراغب في دفع مستحقات إصلاح ديمقراطي حق دون لف ولا احتواء ولا تضليل، فدورة النضال الديمقراطي المفتوح لا تنتهي مادامت أسباب انتعاشها المتجدد قائمة، ومن أهم هذه الأسباب محاولات تشديد القبضة الاحتوائية و الحديدية على المجتمع وقواه الحية.
إن الرهان على النضال السلمي المفتوح من داخل النسق ومن خارجه ليس رهانا في ذاته، وليس رهانا بدون فائدة بحسب السياقات، وهو ما يفتحنا في تقديري على سؤال الإصلاحات الديمقراطية الجدرية من جديد.. إما بمبادرة رسمية وجادة، وإما بضغط من حراك شعبي سلمي أكثر قوة من سابقه..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.