لا يَخلو مجتمعٌ إنساني من المشكلات الأُسرية، فالواقعُ خليطٌ من الرخاء والشِّدة. كما أن كثرة الاحتكاكات بين الأقارب تُولِّد أنساقاً اجتماعية مضطربة، ومُحاطة بِسُوء الفهم، وسُوء السلوك. ومن الطبيعي أن تؤدِّيَ هذه المنظومةُ المشوَّشةُ إلى نزاع بين الأقارب، وصراعٍ على المقدِّمات والنتائج.
وقد بَرَزَتْ حالةُ التصادم مع الأقارب في شِعر طَرَفة بن العبد تحديداً، وذلك بسبب كَوْنه شاباً متهوراً، ممتلئاً بالشهوات المتأجِّجة، ومُنساقاً وراء غرائزه الملتهبة. وَمَن كان هذا حاله، فلا بد أن يصطدم بالمنظومة الأُسرية، ويتعرض للنقد والهجوم، من أجل تطويعه، وإخضاعه لقوانين الأُسرة، وإعادته إلى الدائرة العائلية.
تَظْهر خَيبةٌ جديدةٌ للشاعر تتمثل في هجران القريب (ابن العَم)، وهذا الأمر جَرَحَ أحاسيسَ الشاعر، وطَعَنه في الصَّميم، وسَبَّب له آلاماً كثيرة، بسبب درجة القرابة. |
ومن المعاني الظاهرةِ في شِعْره، وِصال الأغْراب وهجران الأقارب. وهذا الأمرُ وَلَّد في قلب الشاعرِ مرارةً، وزرعَ الحسرةَ في كيانه. فالأباعدُ يهتمون به، ويَحْرصون على الالتقاء به، ومعرفة أخباره، والاهتمام بشؤونه، أمَّا الأقارب فقد أهْملوه، وهَجَروه.
وبالإِضافة إلى ما سَبَقَ، تَظْهر خَيبةٌ جديدةٌ تتمثل في هجران القريب (ابن العَم)، وهذا الأمر جَرَحَ أحاسيسَ الشاعر، وطَعَنه في الصَّميم، وسَبَّب له آلاماً كثيرة، بسبب درجة القرابة. فالجروحُ التي يُسبِّبها القريبُ تَكون قاتلةً، ولَيْست كالجروح التي يُسبِّبها الغريبُ. وفي هذا السياق، تتَّضح فلسفةُ ظُلم الأقارب، ومقدار الأذى الذي ألحقوه بنفسية الشاعر.
وأخيراً، تَتجلى الهوةُ العميقة بين الشاعر وأبيه. فالاثنان يَسيران على خَطَّيْن متوازيَيْن لا يَلْتقيان، ولا توجد فرصة للحوار، وحَل المشاكل العالقة بينهما، وهذا الصِّدام الدائم (صراع الأجيال) يُشكِّل خطراً حقيقياً على وجود الأُسرة.
1- وصال الأغراب وهجران الأقارب:
يتجذر التناقضُ الصارخُ في أقسى معانيه. فالأغرابُ يتواصلون مع الشاعر، ويَحْرصون على بناء علاقات اجتماعية معه، في حين أن الأقارب يَبتعدون عنه. والشاعرُ غارقٌ في هذه المعادَلة الغريبة، يُعاني من الصَّدمة والألم والحسرة، ويَقضي وَقْتَه مُفكِّراً في هذا الانهيار الاجتماعي المدمِّر.
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد:
رَأيتُ بني غَبراء لا يُنْكِرونـني ولا أَهلُ هذاكَ الطِّرافِ المُمَدَّدِ
عِندما نَبذت العشيرةُ ابنَها الضَّال (الشاعر)، وَحَشَرَتْه في الزاوية وحيداً شريداً، رأى بني غَبراء (الفقراءَ الذين لصقوا بالأرض من شِدَّة الفقر) لا يتنكَّرون له، ولا يُنكِرون أياديه البيضاء، ولا يَجْحدون إِنعامَه عليهم، ورعايته لهم. وأيضاً، رأى الأغنياءَ الذين لهم بيت الأَدَم (الطِّراف) الممدَّد لِعَظَمَته لا يُنكِرونه، ولا يتجاهلونه، بل على العكس، فهُم يستمتعون بِصُحْبته، ويَسْتطيبون مُنادمته. والشاعرُ يقول: إِن هجرني الأقارب وَصَلني الأباعد، وإِن تخلَّت عني العشيرةُ، فإن الأغرابَ لم يتخلوا عني، وهُم الفقراء والأغنياء. فالفقراءُ يتقرَّبون منه لنيل إِحسانه وإِنعامه، والأغنياءُ يتودَّدون إليه للاستمتاع بصُحبته ونَيْلِ الشَّرف والرِّفعة.
وهكذا، نجد الشاعرَ يُعوِّل على الأباعد من أجل صناعة مكانته الاجتماعية، ويعتمد عليهم بالكُلِّية بعد تخلِّي أقاربه عنه. وهذا الوضعُ الغريبُ، لجأ إليه الشاعرُ اضطراراً. فقد سُدَّت الطرقُ في وجهه، وضَرَبَت العشيرةُ حَوْلَه حِصاراً شديداً، فلم يجد غير مساندة الغرباء بكل طبقاتهم الاجتماعية، وذلك لإعادة التوازن النَّفْسي في كيانه الذي خَدَشَه الأقارب، وأَفْرَغوه مِن معناه.
والإِنسانُ قد يتوقَّع الطعناتِ الاجتماعية من الأغراب، ولكنه من الصعب أن يتوقَّعها من الأقارب الذين وُلد بينهم، وعاشَ معهم، واعتبرهم القوةَ الاجتماعية التي تسنده، وتدافع عنه، وتُحيطه بالأمن الرُّوحي، والأمانِ المادي. وكلُّ نُفورٍ من الأقارب هو صدمةٌ حقيقية، تُزلزل كيانَ الإنسان، وتُفقده الثقةَ بالنَّفْس، وتُحيله إلى كُتلة من العُقد النفسية، والأزماتِ الاجتماعية.
ولا يخفَى أن المجتمع العربي القديم هو مجتمع قَبَلي مُغْلَق، ولا يَقْدر الفردُ أن يتحرك بمعزل عن القبيلة _ مهما كان قوياً _، فلا صَوْتَ يَعْلو فوق الصوت القبيلة (الوَحدة المجتمعية الأساسية). ووفق هذه الرؤية، فإن تخلِّي القبيلة عن الفرد بمثابة إهدار دمه، وتعريته في هذا المجتمع الصحراوي القاسي. وبالتالي، فإِن الفردَ سيجد نَفْسَه مكشوفاً بلا قوة تَسنده، وعارياً أمام طُوفان التحديات المتكاثرة.
قد يتوقع الإنسانُ أن يَظْلمه الآخرون، ولكنْ من الصعب عليه تخيُّل أن يَظْلمه أقاربه. فالمفروضُ أن الأقارب هم الدرع الواقية التي تحمي الإنسانَ من ظُلم الآخرين، أمَّا أن يَكونوا مَصْدَرَ الظلم، ومنبعَ الآلام، فهذه كارثة حقيقية. |
2- ابتعاد القريب:
الآلامُ التي يُسبِّبها القريبُ تختلف كُلياً عن الآلام التي يُسبِّبها الغريبُ. فالآلامُ القادمة من القريب تَكون عنيفةً للغاية بِحُكم رابطةِ الدم والعلاقةِ الأُسرية، وتترك آثاراً عميقة في النَّفْس والجسم معاً. فالإِنسانُ قويٌّ بعائلته، ويستمد حضورَه الاجتماعي من أقربائه، وهو يَنظر إلى قريبه كقوةٍ داعمة وسندٍ حقيقي في مجتمع قَبَلي لا يَرْحم. وتخلِّي القريب عن قريبه يُشير إلى مشكلة اجتماعية خطيرة، تؤدي إلى تفتيت الروابط العائلية، وتدميرِ مكتسبات القبيلة، وإِضعاف صورتها أمام باقي القبائل.
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد:
فما لي أراني وابنَ عَمِّيَ مالِكاً متى أَدْنُ مِنْهُ يَنأ عني وَيَبْعُـدِ
يَستغرب الشاعرُ موقفَ مَالِك (ابن عَمِّه)، فكلما تَقرَّب إليه الشاعرُ ابتعدَ عنه. إنهُ يتألم بشدة بسبب هجران قريبه إِيَّاه مع تقرُّبه منه. وهذا الموقف المؤلم أثَّر سلباً على الشاعر، وتركه غارقاً في مستنقع الحزن والحسرة. يُحاول الشاعرُ جاهداً التقربَ إلى ابن عَمِّه، لكنَّ هذا الأخير يَبتعد عنه، ويقابل التقرُّب والتودد بالابتعاد والهجران. ومن الدلائل على حزن الشاعر وألمه العميق، جَمْعُه في البَيْت الشِّعري بين النأي والبُعد _ رغم أنهما بنفْس المعنى _، وذلك للتأكيد على قيمة الهجران، وإِبرازها بكل وضوح.
3- ظُلم الأقارب:
قد يتوقع الإنسانُ أن يَظْلمه الآخرون، ولكنْ من الصعب عليه تخيُّل أن يَظْلمه أقاربه. فالمفروضُ أن الأقارب هم الدرع الواقية التي تحمي الإنسانَ من ظُلم الآخرين، أمَّا أن يَكونوا مَصْدَرَ الظلم، ومنبعَ الآلام، فهذه كارثة حقيقية. فالمنْطق يقول إِن القريب هو مَنْبع العدل لا الظلم، تماماً كالطبيب الذي يُنظَر إليه كسبب للشفاء لا المرض.
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد:
وظُلْمُ ذَوي القُربى أشَدُّ مَضاضَةً على المَرْءِ مِن وَقْعِ الحُسامِ المهنَّدِ
ظُلْمُ الأقارب أشد تأثيراً مِن وَقْع السَّيف. فهذا الظلمُ القادمُ من الأقارب أشد تأثيراً في تهييج نارَ الحُزن والغضب مِن ضَرْب السيف القاطع البتار (الحسام المهنَّد). فَضَرْبُ السيف يؤثر على الجسد، أمَّا وَقْعُ ظُلم الأقارب فيؤثر على الروح والجسد معاً. كما أن للظلم حُرقةً شديدة، وتزداد هذه الحُرقة إِذا كان الأقاربُ هُم سبب الظلم. إِنها مصيبة مُوجِعة تتفوق على تأثير السيف، ومن الصعب تحمُّل صدمتها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.