شعار قسم مدونات

المكانة الأسرية للهاتف الذكي

Relatives separated by deportation and immigration pose for a selfie at the border during a reunification event named "#Hugs Not Walls" at the banks of the Rio Bravo, a natural border between U.S. and Mexico, January 28, 2017. REUTERS/Jose Luis Gonzalez
تقدم مسارات تطور الهاتف -على صعيد الشكل والوظائف- دليلا على الأثر الكبير الذي تتركه الرقمنة في الصناعة، فقد تطور الهاتف من جهاز ميكانيكي ثابت يتكون من قطعتين إلى جهاز مدمج يسهل حمله والتنقل به، وبعد أن كانت مهمته الرئيسة والوحيدة هي التواصل الصوتي بين الأشخاص، أصبح وسيلة للتواصل الشخصي والجماعي والجماهيري، يتعاطى مع كافة الوسائط التواصلية (النص والصوت والصورة والفيديو واللون)، وتحول إلى جهاز حاسوب مصغر متعدد الوظائف، ولم يكتفِ بذلك بل صار ضمن منظومة مظهر الفرد: يختار شكله ولونه وماركته؛ لكي يتناغم مع مكونات المظاهر الأخرى، وليدخل ضمن محددات المكانة الاجتماعية، ربما قدم مؤشرا عن الشخصية لدى بعض الأفراد.

 

لقد ظهر التواصل الهاتفي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر كأقرب وسيلة للتواصل بين الأشخاص وجها لوجه، فبالرغم من أنه يكتفي بالصوت، فإن هذا الأخير قادر على نقل المعلومات والمشاعر بكفاءة ودرجة عالية من الأنسنة والواقعية التي تفتقر إليها النصوص المكتوبة، وذلك من خلال نغمة الصوت ودرجة ارتفاعه أو انخفاضه وإيقاع الحديث والتشديد في بعض الألفاظ، فضلا عن سهولة الاستخدام، وشعبيته المتمثلة في تواجده في المنازل وأماكن العمل. كل ذلك مهد للهاتف الطريق لكي يتبوأ مكانه ضمن الأسرة وتتعاظم هذه المكانة مع مرور الوقت.

هناك مجموعة من المبررات العملية التي أدت إلى ترسيخ مكانة الهاتف الذكي في الأسرة المعاصرة. إذ مكنها من توسيع فضاءاتها التي كانت تقتصر على المنزل أو مكان الإقامة المؤقتة؛ ليشمل كافة أفراد الأسرة المنتشرين في بقاع المعمورة.

تزداد أهمية الهاتف الذكي يوما بعد يوم من خلال الخدمات التي يمكن أن يقدمها للفرد سواء تعلق الأمر بالتعليم أو الترفيه أو الإعلام أو القيام ببعض المهام، فضلا عن التواصل مع الآخرين. وتوسعت هذه الخدمات لتشمل إنجاز العمل الوظيفي من خلال المرونة الفائقة التي تمكن المتواصل من تلقي الأوامر وإصدارها، وتداول الوثائق، وتعرف الأماكن عبر الخرائط الرقمية وصور الأقمار الاصطناعية، فضلا عن التواصل مع الزبناء والمراجعين (أي استخدامه في التواصل الداخلي والتواصل الخارجي).

هناك مجموعة من المبررات العملية التي أدت إلى ترسيخ مكانة الهاتف الذكي في الأسرة المعاصرة. إذ مكنها من توسيع فضاءاتها التي كانت تقتصر على المنزل أو مكان الإقامة المؤقتة؛ ليشمل كافة أفراد الأسرة المنتشرين في بقاع المعمورة الذين يتواصلون بكيفية شخصية دائمة باستخدام الرسائل النصية والصوتية ومقاطع الفيديو الحية. ونجح الهاتف الذكي في الاحتفاظ بالذكريات المشتركة لأفراد الأسرة، سواء عبر مجموعات الدردشة المغلقة، أو الصور الخاصة التي يتم تداولها في نطاق الأسرة.

لم يكتف الهاتف الذكي – عبر استخداماته التي تبدو وكأنها غير محدودة تعززها مئات الآلاف من البرمجيات – بترسيخ مكانته داخل الأسرة الحديثة، بل أصبح أحد المؤشرات البارزة على المكانة الاجتماعية، خاصة فيما يتعلق بالانخراط في ركب العولمة التواصلية التي تحتم القيام بمجموعة من الأنشطة الحياتية باستخدام الهاتف الذكي، انطلاقا من تعرف الوقت والتصوير والتواصل مع الآخرين ووصولا إلى اتباعه كدليل جغرافي يوصل إلى الوجهة المعنية. وتمثل الذكاء في إذابة الفوارق الاجتماعية التي كانت تحرم الأميين من إدلاء دلائهم عندما يتعلق الأمر بالنصوص المكتوبة، من خلال التركيز على التواصل الأيقوني البصري وسهولة إنتاج الرسائل الصوتية وإرسالها أو تصوير مقاطع الفيديو ونشرها.
 

ومن أبرز هذه السلبيات: تفكيك لحمة الأسرة، وحرمانها من التواصل بين الأجيال، وحرمانها لبعض أفرادها الذين يدمنون التعاطي مع الهاتف الذكي لدرجة لا يستطيعون معها فراقه حتى أثناء قيادة السيارة فيتسبب في فقدانهم أرواحهم.

ولا يخفى الدور الرئيسي الذي يقوم به الهاتف الذكي في اكتساب الأصدقاء عبر شبكات التواصل الاجتماعي والحفاظ عليهم أكثر مما كانت تفعل الحواسيب المكتبية أو المحمولة. فقد فتحت شبكة الفيسبوك الباب أمام اكتساب آلاف الأصدقاء لتتفوق على شبكة الأرقام الهاتفية التي يسجلها الأفراد في هواتفهم. ولكن هذا التوسع في الصداقات أتى على حساب الأسرة الصغيرة وبدأ يسلبها قدرتها على توفير التواصل المباشر الفعال بين أفرادها. فقد أوشك الهاتف الذكي أن يصبح الأقرب لصاحبه من أي فرد من أفراد الأسرة: فهو الصديق والقرين والمعلم والمؤنس والمرفِّه و(السلاح)… هو الرفيق الذي لا يمكن فراقه.
 

هكذا تعززت الثقة في الهاتف الذكي، دون الانتباه إلى المخاطر التي تنطوي على الأجهزة الرقمية، والمتمثلة في غوايتها للمستخدم بحيث يثق في قدرتها على المعالجة والتخزين والاسترجاع وتوفير الحلول الذكية الناجعة السريعة، ودون الانتباه لمخاطر تعرضها للقرصنة والتجسس وتدمير المحتوى واستغلال البيانات الحيوية في الإضرار بصاحب الهاتف أو بالآخرين. درج المثل الشعبي: "لسانك حصانك إن صنته صانك وإن هنته هانك" أن يحذر الناس من إطلاق العنان للسان فيَكثُر القول فتكثر الزلات، وهذا ما انطبق على أجيال ما قبل الهاتف الذكي، أما الجيل الحالي فهو قد بدأ يقلل من الكلام ويستبدله بما هو أسوأ: إذ يمطر الفضاءات الرقمية بشتى أنواع الرسائل التواصلية النصية والصوتية والصورية والفيديوية دون تمحيص متناسيا أن هذه الفضاءات لا تعرف الأسرار وذاكرتها لا تنسى.

تزداد المؤشرات على أن المكانة التي أضحى الهاتف الذكي يحتلها ضمن الأسرة الحديثة، بدأت تفرز سلبيات تهدد الأسرة باعتبارها النواة الخصبة للمجتمع السليم. ومن أبرز هذه السلبيات: تفكيك لحمة الأسرة، وحرمانها من التواصل بين الأجيال، وحرمانها لبعض أفرادها الذين يدمنون التعاطي مع الهاتف الذكي لدرجة لا يستطيعون معها فراقه حتى أثناء قيادة السيارة فيتسبب في فقدانهم أرواحهم، بالإضافة إلى الاعتماد عليه في الإجابة عن الأسئلة التي كانت توجه لكبار أفراد الأسرة بحكم خبرتهم في الحياة.
 

سيظل الخطر ماثلا كلما أمعنا في أنسنة الهاتف وحولناه من جهاز تواصلي إلى صديق دائم أكثر قربا من كافة أفراد الأسرة: نعتمد عليه في السراء والضراء ونأتمنه على أسرارنا ونستعين به على قضاء حوائجنا وفق ثقة زائدة عن الحد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.