شعار قسم مدونات

هذا الطريق أغلقته عوامل الزمن

blogs - السيسى و جمال عبد الناصر
يبدو أن فشل السيسي ونظامه في القضاء على معارضيه وجرهم إلى العنف لتبرير سحقهم، يحتم عليه مراجعة استراتيجيته لتثبيت أركان حكمه، حيث أنه يسند في ذلك على دعامتين أساسيتين يستلهمهما من تجربة عبد الناصر الذي ظل يحكم مصر من1952 م إلى 1970م بلا منافس.

الدعامة الأولى: هي حزمة إجراءات الاقتصادية في صورة منح شعبية للعمال والفلاحين مما يحقق شعبية جارفة.

والدعامة الثانية: هي افتعال معارك عسكرية خارجية الهدف منها إسكات المعارضة، وتبرير سحقها، ووأد الديمقراطية، وإعادة إنتاج شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". فهل من المتاح للسيسي أن ينقل تجربة عبد الناصر بالكربون؟ أم أن الواقعين مختلفين من حيث التركة الاقتصادية الموروثة وطبيعة المعارك العسكرية التي تستعصي على المقارنة؟

لن نتحدث عن الفوارق الشخصية والكاريزمية بين السيسي وجمال عبد الناصر، كما أننا لن نقارن بين قوة ونفوذ ومكانة كل منهما داخل الجيش، ولكننا سنعتمد في الإجابة على هذه الأسئلة أولا على تحليل واقع مصر الاقتصادي والإمكانيات المتاحة لكل منهما، ثم تحليل طبيعة المعارك العسكرية ومسوغاتها الأخلاقية لكل منهما.


ورث عبد الناصر تركة غنية من نظام الملك استطاع أن يوزع منها ليحصد شعبيته، فأين هي التركة التي سيوزعها السيسي ليحصل علي شعبيته؟

أولا: التركة الاقتصادية 

لقد كان الاقتصاد المصري في عهد الملك فاروق يتمتع بالقوة والازدهار رغم الاحتلال والإقطاع، حيث كان الجنيه الذهب يساوي (٩٧ قرشا مصري) وكان الجنيه المصري أقوى من الجنيه الاسترليني والدولار والريال والمارك الألماني والين الياباني حتي بداية السبعينيات من القرن الماضي، وكان الدولار بـ (٣٥ قرشاً مصرياً) والريال السعودي بعشرين قرشاً.

أضف إلى ذلك المساحات الهائلة من الأراضي الزراعية المملوكة للعائلة المالكة والباشوات، مع عدد المصانع المملوكة للأجانب وأصحاب النفوذ في نظام الملك، كل هذا شكل قاعدة اقتصادية قوية مكنت عبد الناصر من اتخاذ قرارات تبدوا في ظاهرها شعبية، حيث أمم المصانع وأنشأ قطاعا عاما بدى وقتها أنه في صالح العمال، كما صادر أراضي زراعية مزروعة وجاهزة وزعها على صغار الفلاحين مما أعطاه شعبية هادرة.

فهل يوجد بمصر الآن أراضٍ زراعية يمكن توزيعها استجلابا لشعبية السيسي؟ أم أنه لم يتبقى إلا الصحراء التي إذا وزعت على الشباب ستكون بمثابة العقاب الذي يجلب السخط حيث يعلم الجميع مشاكل الاستصلاح في مصر؟ وهل يوجد في مصر اليوم مصانع يمكن تأميمها لصالح العمال؟ طبعاً الإجابة محبطة جداً للسيسي ونظامه الذي يتحالف بالأساس مع رجال الاعمال (الإقطاعيون الجدد) الذين نهبوا القطاع العام والذين سعوا في خراب الأراضي المزروعة لصالح مافيا المستوردين للمواد الغذائية.

إذن لقد ورث عبد الناصر تركة غنية من نظام الملك استطاع أن يوزع منها ليحصد شعبيته، فأين هي التركة التي سيوزعها السيسي ليحصل علي شعبيته؟ الإجابة (مفييييييش).


ثانيا: المعارك العسكرية ومبرراتها الأخلاقية
لقد فرض الظرف التاريخي على جمال عبد الناصر أن يخوض معارك خارجية استثمرها نظامه في إسكات كل الأصوات المعارضة في الداخل حتي يسهل اتهامها بالخيانة والعمالة إذا أبدت أي اعتراض أو مساءلة، ولكن لحسن حظ عبد الناصر أن هذه المعارك كان لها مبرراتها الأخلاقية التي زادت من شعبيته رغم فداحة خسائرها، وهذه هي نقطة الاختلاف الجوهرية التي لا تسمح بالمقارنة بين معاركه ومعارك السيسي المتوقع خوضها، فمعارك عبد الناصر كان ظاهرها أنها معارك التحرر باسم الوطن العربي كله، سواء في فلسطين ضد (الاحتلال الإسرائيلي) أو الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي أواليمن لوحدة أراضيه، كما ساهم في بعض المعارك التحررية في دول أفريقية، فاتسمت علاقته بالتوتر الظاهر مع الغرب والعداء الواضح مع (إسرائيل) وكان الضوء مسلطا في الأساس على هذه المعارك بينما لم يشعر أحد باستئصال وسحق المعارضة بالداخل، وبالتالي غطت هذه المعارك بشعاراتها الأخلاقية وأبعادها التحررية على وأد الديمقراطية في مصر وأظهرت عبد الناصر في صورة البطل الذي يواجه الدول الكبرى مما منحه شعبيته الطاغية.

وبالمقارنة لابد أن نطرح سؤالين:
(1) ما هي المعارك الأخلاقية وشعاراتها التحررية التي تجذب تعاطف الجماهير والتي يخوضها السيسي مقارنةً بعبد الناصر؟
(2) إلى صدر من يوجه السيسي سلاحه بالمقارنة مع عبد الناصر؟

إن التجارب لا تشف ولا تستنسخ بحذافيرها، ومن يفعل ذلك رغم مغايرة الواقع الاقتصادي وطبيعة المعارك وأطرافها أحمق بلا رؤية سرعان ما يكتشف أن طريقه مسدود

السيسي الآن يخوض معركتين تفتقدان إلى المبررات الأخلاقية عند الكثيرين من الشعب المصري، وكلتيهما مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً بمصلحة الغرب و(إسرائيل) بشكل مباشر بما لا يمكن مداراته أو إخفاؤه، على عكس معارك عبد الناصر التي بدت ضد المصالح الغربية الإسرائيلية، وهو ما لا يمكنه من تحقيق شعبية مطلقة كما تحقق لجمال عبد الناصر، وما يفقده السيسي أيضا هي الحاضنة الشعبية التي تمنحه أكسير الاستمرار في هذه المعارك.

إذن، أول هذه المعارك معركة التخلص من الربيع العربي تحت راية الثورة المضادة في مصر، وهذا لا يلقى قبولا عند قطاعات عريضة من الشعب المصري وفي القلب منها قطاع الشباب، والتيار الشعبي الأكبر في مصر وهم الإسلاميون.

أما ثاني هذه المعارك هي معركة قد بدءها ووضع عنوانها وشعارها الغرب، حيث أسماها الحرب على الإرهاب وهو مصطلح يعني عندهم محاربة المشروع السياسي للإسلام مما يفقده قدرته على التسويق داخلياً، وهو قطعاً يلقى مقاومة واسعة ويضع نظام السيسي في خانة الأنظمة المتهمة بالتبعية وعدم الاستقلال حيث تتحكم في شعوبها لصالح أعدائها، مما ستحضر إلى الأذهان نموزج كرذاي في أفغانستان أو برويزمشرف في باكستان وكلاهما اشتهر بتبعيته للغرب.


فحرب السيسي على أهل سيناء واستهداف الأطفال والنساء والشيوخ والتهجير المتعمد للمواطنين وهدم البيوت يصب في صالح (إسرائيل ) ومشروعها التوسعي، أضف إلى ذلك الاستمرار في محاصرة غزة وضرب بعض المناطق في ليبيا ومساندة النظام السوري ودعمه بالسلاح ، كل هذا يعطي انطباعاً أن سلاح السيسي لا يوجه للأعداء بل يوجه ليقتل المواطنين المصريين أو الأشقاء العرب، فهل معارك السيسي مع الشعب المصري وأشقائه العرب تعطيه نفس الشعبية التي أعطتها المعارك الخارجية في الخمسينات والستينات بمبرراتها الأخلاقية لجمال عبد الناصر؟ الإجابة …. ؟؟


إذن، ليس أمام السيسي في الجانب الاقتصادي إلا أن ينحت المنحوت أو يجرف المجرف من أصول الدولة إن كان ثمة أصول، مما يجعله مفلساً لا يوجد عنده ما يستميل به تأييد الشعب، بل هذا يدفعه مضطرا إلى اتخاذ إجراءات من شأنها اضعاف شعبيته كما حدث عند رفع الدعم وزيادة الضرائب لسد عجز الموازنة، كما أنه ليس أمامه عسكرياً إلا معارك قذرة يريق فيها دماء شعبه بالوكالة لصالح أعداء وطنه، حيث يفقد ما حصل عليه من شعبية زائفة صنعها الإعلام وبدأت في التبخر الآن مما يعجل بسقوطه سقوطا مدوياً.

إن التجارب لا تشف ولا تستنسخ بحذافيرها، ومن يفعل ذلك رغم مغايرة الواقع الاقتصادي وطبيعة المعارك وأطرافها أحمق بلا رؤية سرعان ما يكتشف أن طريقه مسدود، من هنا يتأكد لنا بالدليل القاطع أن السير في طريق جمال عبد الناصر هو سير في طريق مغلق قد أغلقته المتغيرات وعوامل الزمن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.