في مثل هذه المواقف تمتحن إنسانية المرء فإما أن يظهر الإنسان على حقيقته دون ابتذال وإما أن ينبثق كائن لا يعرف سوى إصدار الأحكام في حق أشخاص لا يعرفهم ليغطي عن عيوب تنخر إنسانيته الهزيلة في صمت دون أن يعي شيئا.
| الوعي لم يقدر أبدا بعدد السنوات التي يقضيها المرء خلف مقاعد الجامعة، لأن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي تعرينا لنظهر على طبيعتنا دون فيلتر. |
يكمن المشكل هنا في ثقافة تكرس لأفضلية هذا عن ذاك: "هو أكثر تدينا منه وأكثر نجاحا وأكثر جمالا وأكثر طولا وأعلاهم نقطا.. "فيلجأ الكل إلى انتقاد الآخرين وإظهار عيوبهم مع وبالمقابل إظهار مناقبه وإنجازاته ورعه وتدينه وذهابه إلى المسجد خمس مرات في اليوم وصيامه الاثنين والخميس والأيام البيض ويوم عرفة ومنتصف شعبان ورجب أمام الناس لأنه لا يستطيع العيش مستقلا عن آرائهم فيه وتقديرهم الدائم له لأنه "أفضل" أقرانه.
هنا تنشأ نظرة إقصائية لكل ما هو مغاير أو غريب عنه، فتكون أخطاء الآخرين بمثابة صكوك يتملكها للمرور إلى درجة أفضل وترك "ذوي العيوب "خلفه لأنهم لا يستحقون فرصة ثانية ولأنهم لم يفلحوا فيما أفلح فيه وأبهر الناس به.
فقدت صديقة قبل سنتين في حادث سيارة، كانت أمها مكلومة لم تستطع الكلام ولا البكاء، كانت تجلس وسط النساء، تلبس زي الحداد الأبيض والذهول يبدو على محياها وكأنها في ملكوت آخر أو كأن عقلها طار إلى حيث دفن جثمان ابنتها.
"لا أدري صراحة هل واجب علينا الترحم عليها، لأنها كانت مع صديقها في السيارة.. على الأرجح لا"، " فكرت في ذلك قبل قليل. يا ويلي من بنات اليوم. لا يجلبن سوى العار" كان هذا الحوار الصادم حوارا تبادلته اثنتان من النسوة المعزيات اللائي كن جالسات على يمين الأم المصدومة دون اعتبار لمسامعها ومشاعرها الممزقة والعائلة أو حالتهم النفسية المزرية آنذاك. لم أستطع الصراخ في وجهيهما ولم أستطع البقاء لذلك قررت الرحيل. فخرجت أذرف الدموع على عقلية صدئة لأمهات من المفترض أن يربين أجيالا تعيش السلام الداخلي والخارجي.
كان تعليق الشاب على نداء التبرع بالدم صادما، لكن صدمتي كانت أكبر عندما علمت من بيانات فيسبوك أنه مهندس مقيم بتركيا. المحزن حقا أن العديد من الأشخاص ساندوه في رأيه وأفتوا بالإجماع أن من حقه الامتناع عن التبرع بدمه لفتاتين كانتا في مطعم وملهى ليلي.
الوعي لم يقدر أبدا بعدد السنوات التي يقضيها المرء خلف مقاعد الجامعة، أبدا لم يكن هذا هو الوعي الذي يصدح بالإنسانية مهما كانت الظروف والاعتبارات والاختلافات لأن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي تعرينا لنظهر على طبيعتنا دون فيلتر.
شخص آخر تساءل في تعليق عن صور جثث الضحايا -التي تعدى على حرمة أصحابها الأموات- "كيف سيبعثون يوم القيامة؟" ليجيبه الكل مرة أخرى بالإجماع أنهم سيبعثون غارقين في دمائهم، ملطخي الثياب لأنهم كانوا يحتفلون بأعياد المسيح ولأنهم كانوا سكارى.
| لو فقط حاول المرء التغيير الإيجابي واشتغل على عيوبه ومخاوفه وطور من قدراته عِوَض الخوض في أعراض أشخاص ماتوا أو في عداد الأموات. |
هؤلاء هم من نصبوا أنفسهم أربابا من دون الله، واستووا على عروش ذهبية يقررون في حياة الناس ومصيرهم وأي المقاعد سيتبوؤون يوم القيامة لأنهم "أشخاص منزهون عن الخطأ" لم يخطئوا يوما ولن تخطئ ذريتهم قط ومن حقهم انتقاد الأموات والمعطوبين ضحايا الإرهاب. وهم في الحقيقة لولا رحمة الله وستره لانبعثت منهم رائحة النتانة لو كانت للأخطاء والخطايا رائحة.
لو تُرك المخلوق للخالق يفعل به ما يشاء، يهديه ثم يغفر له بعد معصية. لو لم ننصب أنفسنا قضاة مجتمع فشلت فيه المنظومة التربوية -في البيت والمدرسة- وجعلت من الإقصاء للكسول والمتمرد وصاحب الشعر المنفوش والتي تحلق شعرها شعارا لها. لو فقط حاول المرء التغيير الإيجابي واشتغل على عيوبه ومخاوفه وطور من قدراته المعرفية والعلمية واللغوية عِوَض الخوض في أعراض أشخاص ماتوا أو في عداد الأموات، ربما أرواحهم تسمع التجريح وتتألم.. وليس لها حق الرد من هول الصدمة.
ينتقد الميت وكأنه لن يموت، وكأنه يعلم بأي طريقة وعلى أي أرض سيموت. أفئدة آباء ممزقة وأمهات مكلومة من هول الصدمة والكثير من الذكريات الجميلة والحزينة والضحك والجمال والبكاء والأمل والمثابرة وحب الحياة والأخطاء وتصحيحها. ربما عمل صالح قام به أحدهم أفضل عند الله من الكثير من الاعتبارات. كيف سيبعثون يوم القيامة؟ كما شاء لهم الله أن يبعثوا وليس كما شئت لهم أنت أن يبعثوا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

