فمن المُخيفِ لباعث القرار أن ينتزع لقمةً من فمِ مسكينٍ بائسٍ من غير سببٍ ظاهر مُخيف، ولكن من السهولة بمكان أن تنسَّل تلك اللقمة من ذات الفم من غير ضجيجٍ في سبيل ألّا تُنزع روحه بتلك الأنياب المميتة، فالطريقة الأفضل لإسكات أفواه القطط هي في إقناعه بأنك تقف إلى جانبه. ومن هنا أصبحت صناعة العدو الوهمي ضرورة مُلحة تُستخدم للتحكم والسيطرة والقمع والاستبداد في مسرحية يبدو القمع فيها مصلحةً والتنكيلُ منفعةً والمقموعُ ضاحكا والقامع مُتحسِّرا، فبمثل هذه الهزليات نستطيع -عدا إصدار قرارات كانت في حكم المستحيلات- إشغال العامة عن التقصي عن أمرٍ يُحاكُ في الخفاء حتى تكتمل دورة حياكته وتطريز مفاصله ويحين وقتُ ثورته عند ساعة لا ينفع فيها صراخ ولا تجدي لها شكوى.
منذ عقود ونحن لا نستطيع تخيل شرق أوسطٍ خالٍ من منظمة إرهابية دولية أو محلية، وربما ولمدة عقود قادمة لن نستطيع تخيل حدودٍ آمنة وادعة. |
وقد نتمثل مثل هذه الحياكة في إيهامِ الملتحين وإشغالهم بالاصطفافِ والوقوفِ صفا واحدا في وجه (حلِّيقين) شُكلت خطورتهم تشكيلا في منصات الواقع الافتراضي وشبكات التواصل، في الوقت الذي أُفرغت له ساحات الواقع المحسوس ليمارس خططه العملية كما شاء، ففراغ الساحة نابعٌ من اصطفاف الطرف الآخر خلف شاشات وهمية صُورت على أنها ثغرة من ثغور المسلمين والتي يجب على الجميع سدها، مع أن الحقيقة في أقوى حالات صدقها وأشد لحظات صفائها تكتفي ببضعة أشخاص يقومون بذلك السد في حين ينصرف البقية يزاولون واجباتهم واقعا.
في صناعة العدو الوهمي هناك طرف غربي يريد بناء مسالكَ لمرور تجارته وتأمين بيعِ أسلحته وتسريبِ هزيل ثقافته، وممالكَ لبناء قواعده وتأصيل فكر سيطرته وترسيخ متين تطاوله، وطرفٌ عربي يعلم أكثر من غيره أن ذلك التاج المتلألئ الذي يعتلي رأسه مهددٌ بالسقوط بعد أن مال به طول المكوث، وبالخفوتِ بعد أن سكن عنه البريق إن لم يخلق عدوا تنشغل به الدهماء عن تبَينِ ذلك الميل واستيضاح ذلك الخفوت. أضف إلى هذا أن الرجل النبيه أكثر حرصا على حقه وماله ونفسه ودينه من الآخر المشغول بدفع عدوٍ ضبابي.
منذ عقود ونحن لا نستطيع تخيل شرق أوسطٍ خالٍ من منظمة إرهابية دولية أو محلية، وربما ولمدة عقود قادمة لن نستطيع تخيل حدودٍ آمنة وادعة، فالواقع المريض يفرض علينا ضرورة وجود ذلك الموت القائم على أبوابنا في جنح الليل لا يُرى منه إلا شبح شاخص يتحرك في ذلك الظلام.