شعار قسم مدونات

في المواساة..

غزة
الناس هنا طيبون جداً، طيبون لدرجة أنهم يحكمون على شخصك -كونك غزيّاً- بعددِ الحروب التي عاصرتها، وكم الدماء التي نزفتها أو نزفها قريبٌ لك، أو بعدد الأسرى من أقاربك. كلما عاصرتَ أكثر، وتألمتَ أعمق، واحترقت أبشع، فأنت تستحق الشفقة أكثر. طيبون إلى الدرجة التي يعطونك فيها أكبر بكثير من الاهتمام، أو بشكل أصح "المراعاة" التي تريد، كونك من غزة، طيبون إلى درجةِ أن أول ما يبدون به تجاهك من المشاعر هو الشفقة، حتى أنهم طيبون لدرجةِ أنهم لا يعلمون مدى ضيقِكَ وألمك، حين تعلم أن كل ما يملكُ العالمُ لك هو الشفقة والدعاء، لا شيء سواهما!
 

مؤخراً، بتُّ أتفادى الإفصاح بأني فقدتُ شقيقتي الحامل وطفليها الرائعين في حرب غزة الأخيرة، لأنني لم أحب، ولم أُرِد، وما عدتُ أطيق التدفقات العاطفية الحزينة الباكية، كون لي عائلة تتألمُ من فقدٍ موجع، وأن لي وطناً ضائعاً تتلقفه الأحزان والمآسي والفواجع، فعند هذه النقطة تحديداً، يتحول العالم إلى "ذوي الفضل" الذين يمنّونَ عليك بدعاءٍ وتوددٍ حزينين تبطنهما مشاعر لا تفهمها، تُشعرُك أنك في طور "الشحادة"!
 

ويا لسوء الشفقة حين تأتي لتزيد الوجع وتُفاقِم الألم. بعض الناس سلبيون في مواساتهم، رديؤون في مشاعرهم، فبكاءُ طفلٍ مثلاً لا يطلبُ منك دمَعاتَك (رغم تقديرها) بقدرِ ما يطلبُ منك رفْقَك، ودعمكَ المعنوي، وروحُكَ الحلوة.

مشاعر الناس وحضورهم رائعين على الصعيد اللحظي فقط، شكراً للناس، وشكراً للتعاطف اللحظي، لكن المشاعر ما عادت تجدي، والتضامنُ بالحروف والكلمات بات أقسى وأوجع من السكوت، أو كلهم سواء ولا فروق، الأسى مستمر، والوجع باقٍ، والحرقةُ تشتعلُ أكثر كلما مرت الأيام.
 

ذاك الطفل الذي فقد أمَّه كبُرَ معه الوجع، وتفاقمتْ معه الآهات في كل يومٍ زاره المرضُ، ولم تطبطب عليه يدُها الحانية، وتلك العروس التي تُوّجت قبل أشهر،ٍ وفي رحمها بذرةٌ حلوة تستحق أن تعيش في كنفِ والدينِ اثنين، باتت أرملة، والطفلةُ فقدت أباها..! هي وُلِدت وذاقت بعضاً من فرحِ الحياة،، لكن مجرد نظرةٍ إلى عينيها تكفي لتشهدَ عن نقصٍ في روح الطفولة ومعنى الحياة، هي لم تذُقْ حلاوة رجوع "بابا" من العمل بعد غياب ساعات ولم تهرول والسعادةُ تملأ كيانها لبسمةٍ أو لحضنٍ مشتاقٍ منه!
 

نعم، يا لمرارة الفقد.. ويا لسوء الشفقة حين تأتي لتزيد الوجع وتُفاقِم الألم. بعض الناس سلبيون في مواساتهم، رديؤون في مشاعرهم، فبكاءُ طفلٍ مثلاً لا يطلبُ منك دمَعاتَك (رغم تقديرها) بقدرِ ما يطلبُ منك رفْقَك، ودعمكَ المعنوي، وروحُكَ الحلوة، ونداءُ أمٍّ لا يطلب منك حزنك وشفقتك، بقدرِ ما يطلبُ كلمات دعمٍ وروح أخوةٍ وحب، وحصارُ شعبٍ لا يطلب منك إسهاباً في أساليب "اللطم"، ففي كثيرٍ من الأحيان، وقفة الروح للروح تفي وتكفي.
 

المواساةُ فن.. ليست دوماً بالدموع، وليست شرطاً بالمادة، قد تكونُ حزيناً، وتأتي المواساة على شكل بسمة تزدهرُ لها روحكَ وتفرح، قد نكونُ بؤساء وتأتي المواساة بكلمةِ تثبيت تدعِّمُ ضعفنا وتجبر كسرنا، أو بتربيتٍ هادئ على الأكتاف يزيح بعضاً من الأسى. في المواساة تتداخل المشاعر والأرواح وتتعدى كونها كلمةٌ تمرق من لسانٍ إلى أذن، هي قلبٌ يتعاطف وجسدٌ يتداعى حاكياً عن تعاطفه، ورسالةٌ جميلةٌ يشعر بها محتاجُها. ليست كلاماً جافاً وليست مشاعر حافية، هي تفاعل لكل المكنونات الحسية والعاطفية والعقلية، ومن اللازوق أن يتجسد هكذا تفاعل فقط ب"الشفقة".
 

رجاءً لا تزيدوا الهمّ بِهَم، لا تعيّروا مشاعرَ الشفقةِ خاصتكم لبشر؛ لأنها مؤذية، محزنة، لا تواسي ولا تدعم. غادرتُ غزةَ منذ أربع سنوات، ولم أظن للحظة أن الغياب لعينٌ إلى الحد الذي يفقدكَ الشهية، ومذاقات الأطعمة، حتى أن ملذّاتِ الحياة اختلفت، ما عادت ابتهاجاتها حلوة، لكل عتبةٍ من غزة شوق، ولكل شيءٍ فيها نكهة، حتى لركام البيوت ورماد الشوارع! كلها بَرَكة، أينما حللتَ وكيف حللتْ! لم أظنّ للحظة أن الهوية الغزيّة مدعاة للشفقة في نظر العالم رغم كل ما تعنيه لنا، رغم المواقف والزمن والذكريات والماضي والحياة!
 

صحيحٌ أن كدر العيش، وتكرار الحروب، وانقطاع الكهرباء والماء، وانعدام الإحساس بالأمان ينقصُ من جودة الحياة، ويزيدُ الناس هَمّاً، لكن يبقى الوطن أدفأ حضنا، وأوسع مكانا، وأمتع عيشا، وإن كان خرابةً من خربات هذا العالم! وليس لأحدٍ أن ينتزعَ هذه المتعة وهذا الانتماء بمشاعر بالية أو بنظرةِ دُون.
 

لا زلتُ أذكرُ لحظات الحرب البئيسة. ليس أسوأُ من أن تفقد غالياً وتعلم بصدفةٍ عن فقده! صحيح كانت صدفة، لم تكن الاتصالات سهلة يسيرة، أذكرُ أن القدرَ رمى إليّ بصورة مع تعليق من تويتر لتمهد لي عما حدث، كانت صورة لشخصين مغطيين باللون الرمادي والبقع الحمراء، مع تلك الألوان خابت ذاكرتي ولم أعرفهما لولا تعليقٍ من صديق ذكرَ اسمَ أحدهما، بدأت محاولاتي للاتصال والاستفسار ولسذاجتي بدأتها بشقيقتي "سمر" الشهيدة ثم بكل شخص بالعائلة وكلها فشلت، ثم جاء الرد من "تويتر" استشهد سبعة من أفراد العائلة، إلى أن أجاب والدي بعد قرابة الساعة ( بابا… سمر وأولادها ربنا يرحمهم!)
 

لم أذكر هذه القصة لأستزيد من مشاعر الناس، بل رسالة للعالم نحن ما زلنا نملك حياةً خضراءَ، مليئة بالمواقف، بعضها حلو وبعضها حزين، لا زلنا نملك حياةً مفعمة بمعاني الفرح والأمل بغدٍ أجمل، لا زال هناك متسعٌ لآمالنا وطموحاتنا ورسالاتنا وأهدافنا. نعم هناك جانبٌ حزينٌ موجوع، لكن دواخلَنا أكثر حياة من أي قومٍ لم يفقدوا ولم يتوجعوا، فهذه الأوجاع تزيد من قيمِ النفس، تعطيها عظمةً وملوكيةً وقوة، هذه الأحداث تغيِّر من نظرتك للحياة، تزيدُك رزانة، وتمنحكَ إيماناً أقوى وتفكيراً أسمى. لأنه في الواقع من يستحق الشفقة هو العالم وليست غزة!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.