شعار قسم مدونات

هل نصدق أعيننا دائما

blogs - boy child

قيل في الأمثال "العين تُصَدِّق نفسها" وقيل أيضا "والقلب يدرك ما لا يدرك البصر"، فأي الفريقين أحق بالأمن، مصدق عينيه، أم مدرك ما حوله بقلبه.

 

يبدو الأمر قاطعا عند من لا يصدق حتى يرى، لكن السؤال: هل كل ما تراه، حقا، يستحق التصديق؟

 

في الحقيقة، وببساطة مؤسفة، فإن العين تخدعنا كثيرا! أنت تعرف مثلا أن الرسوم المتحركة، ليست إلا صورا ثابتة، تم تحريكها؟ كيف تم ذلك؟ لا شيء أكثر من أن عينك خدعتك، لا شيء تحرك سوى في عقلك.

 

لماذا؟

قبل أن نجيب لماذا، علينا أن نحرر العين من هذه المسؤولية، إذ إنه في الحقيقة ليست عيوننا هي من يخدعنا، إنما الذي يخدعنا هو عقلنا، المسؤول عن ترجمة ما تراه عيوننا.

 

تدرك العين الصور التي تراها، وترسل هذه الصور إلى مركز الإبصار، الذي يعلمنا بما حولنا، هو إذًا من جمّع الصور الثابتة المتتابعة بسرعة، وأخبرنا أنها شيء يتحرك؟ لماذا تفعل بنا عقولنا ذلك إذا؟

 

إن كنا قد حررنا عيوننا من تهمة الخديعة، فقد بقي لنا أن نلتمس العذر لعقل يريد حمايتنا، لكنه لا يملك إلا أن يبني لنا العالم وفق ما لديه من أدوات محدودة، ومع التماس العذر لابد من حذر

لا أحد في الحقيقة يعلم الدوافع التي تجعل عقولنا تخدعنا هكذا، لكن العودة إلى محددات عملها يقول إنها لا تلجأ لهذه الحيل إلا لتحمينا من خطر ما، أو لتجعل حياتنا أسهل. بعض التفسيرات تقول إن عقولنا لا ترى اللحظة التي تصل إليها صورتها، لأنها بطبيعة الحال تكون لحظة قد مرت، بل تحاول أن تتنبأ باللحظة التالية للصورة، فحين أرى لحظة ما فإن عقلي يجتهد ليرينا اللحظة التالية لها، والتي نظريا لا تكون قد وصلت إليه بعد.

 

كل ذلك يحدث بسرعة على أي حال، فلا يمكننا إمساكه عمليا، لكنها تظل محاولات للفهم.

 

الأمر لا يقف عند الصور المتحركة، هناك السراب يحسبه الظمآن ماء، والعرب تقول: أن ترد الماء بماء أَكْيَس، فلا تصدق عينيك حين ترى الماء فتريق ما معك من ماء، بل أمسك ماءك حتى ترد المورد الجديد فإن كان ماءا شربت وملأت، وإلا فلا يقتلك عقلك بخدعة.

 

وهناك الأفق الكاذب الذي يتراءى للطيارين، والمدرجات الخادعة.

 

هل يحدث ذلك حقا؟

نعم.. ويتعلم الطيارون متى يصدقون ومتى يكذبون حرصا على السلامة العامة.

 

خديعة أخرى أسهل في تفسيرها، هي النجوم التي تتراءى لنا حين نتعرض لارتطام رؤوسنا، من أين أضاءت هذه النجوم؟

 

لأن أطراف أعصابنا رقيقة، تنبهها الصدمات، ولا يعرف عقلنا لهذا التنبيه معنى إلا أنه إشارات ضوئية، فيقرأها نجوما وما هي نجوم.

 

تقوم بعض علامات التنبيه في الطرق على استغلال بعض خواص الإبصار غير الحقيقي، كما حدث عام ٢٠٠٦ على أحد الطرق السريعة في شيكاغو، حيث رسمت خطوط عرضية على الطريق، تتقارب مسافاتها تدريجيا، بما يعطي للسائقين إحساسا خادعا بارتفاع سرعاتهم، فيقللونها، والنتيجة أن معدل الحوادث في هذا الطريق انخفضت بنسبة ٤٧ في المية في العام التالي، ما يعني أن السائقين استجابوا تلقائيا لـ "إحساس" عيونهم رغم أن مؤشرات السرعة لم تسجل لهم أي ارتفاع حقيقي في السرعة.  

 

فإن كنا قد حررنا عيوننا من تهمة الخديعة، فقد بقي لنا أن نلتمس العذر لعقل يريد حمايتنا، لكنه لا يملك إلا أن يبني لنا العالم وفق ما لديه من أدوات محدودة، ومع التماس العذر لابد من حذر، إذ ليس كل إدراك ينتج عن أبنيته حقيقي بالضرورة، فبعض الحمايات مضللة.. و.. أن ترد الماء بماءٍ، أَكْيَس. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.