شعار قسم مدونات

المجال العام في السودان

blogs- السودان
إن صراع المجتمع السوداني مع الشباب الحديث اليوم قد أصبح أكبر وأعمق من صراع حول السلطة والامتيازات، إن هذا الجيل الذي عاش سبعا وعشرين عاما تحت حكم نظام الإنقاذ. يمكن أن نسميه صراعاً بين المفهوم التقليدية للدولة الذي يتمثل في العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وعلاقة الفرد مع الآخر، ومفهوم الدولة الحديث الذي يقوم على أسس مفارقة للمفهوم الأول، أي الانتماء للدولة كهوية قانونية تضمن للفرد المواطنة الكاملة والحقوق المكفولة بنصوص الدستور.
 

وهذا المفهوم التقليدي للدولة موجود مسبقاً في ثقافة المجتمعات السودانية تشكل مع نهاية المماليك المسحية وتأسيس دولة مملكة سنار التي كانت تعتمد على التحالفات القبيلة والعرقية، وتم الاعتماد عليها كمصدر للسلطة في الدولة السودانية في فترة ما بعد الاستعمار، حيث كان المجتمع يبدأ في التطور الذي تلاشت معه بعض مظاهر هذه العلاقات التقليدية، ويمثل عام 1924 نموذجا لعجلة تحديث العلاقات في السودان مع ظهور الأسر المنتجة الصغيرة، وتوسع نخبة البرجوازيين، مع ازدياد الأراضي المزروعة ووسائل النقل الحديثة كسكة الحديد والنقل النهري والخرجين والموظفين في دوائر الدولة.
 

من مظاهر العقل التقليدي مفهوم المجتمع Patriarchy البطريركي الذي تتكون السلطة فيه من صاحب القوة أو الأكثر مالا أو ورعا، مثل حق الأب في السلطة و الرأي المطلق على الأسرة.

نحن اليوم في السودان لا نجد في السلطة تلك الطائفية التي تأمرت على الجيل الجديد الذي كان يحمل مفهوما حديثا للدولة، ولا تلك القبيلة التي أعادها المستعمر بعد أن كاد أن ينتهي دورها في المجال العام، لكن اليوم نجد نظاما سياسيا يدعي أنه الوريث الشرعي للنهضة الإسلامية وللسلام.

ولكن تمعن الشخص إلى ما وراء هذا التنظيم أو هذا الفكر يجد نوعاً من الأشكال المفاهيمية التقليدية التي تحرك وتتحكم في وعي هذه المجموعة الحاكمة؛ حيث يكاد يشابه العقلية التي أسست المملكة السنارية أو تلك الممالك التي توجد حينها.

و من مظاهر العقل التقليدي مفهوم المجتمع Patriarchy البطريركي الذي تتكون السلطة فيه من صاحب القوة أو الأكثر مالا أو ورعا، مثل حق الأب في السلطة و الرأي المطلق على الأسرة، وهذا مستمد من مفهوم الدين للمجتمع، باحث المجتمع هو المحيط الأكثر قداسة، فصلاة الجماعة أكثر أجرا من صلاة الفرد.

وفي شكل العلاقات الاقتصادية يغيب دور العلاقات التبادلية في هذه المجتمعات، بل الجباية والغزوات والهداية هي المصدر الواحد للمال في الدولة، حيث لا يجمع المال من أجل توظيفه لخدمة الشعب بأكمله، بل من أجل الحاكم ووزرائه والأسرة الحاكمة، وهذا نجده اليوم في شكل الاقتصاد السوداني/ حيث نخبة رجال المال، والرأسمالية فقط من أسرة المجموعة الحاكمة تحتكر السوق بشكل كلي، حتى هذا الاحتكار وعملية جمع الأموال ليست من أجل تأسيس مؤسسات وطنية وشركات يمكن أن يعمل فيها ويستفيد منها كل الشعب السوداني أو يمكنها نشر وعي حديث، بل هو من أجل الذات فقط، بمعني أن الأموال والممتلكات في المجتمعات القديمة لم تكن من أجل الاستثمار والتجارة، ولكن من أجل إشباع حاجة في نفس صاحبها، والتباهي بغياب التبادل الاقتصادي بين رؤوس الأموال التي أنتجت ثقافة تقليدية؛ لأن التجارة وعلاقة التبادل تؤسس مجتمعات متمدنة؛ مما يحدث تطورا في سلوك الإنسان.

إن هدف رجال الدولة ليس لزيادة الإنتاج من أجل تمنية الشعب ورفاهيته، أو من أجل التفوق السياسي والعسكري للدولة، من هنا يظهر اهتمام رجال الإنقاذ بتدمير مؤسسات الدولة العامة الجيش والمشاريع الزراعية والمستشفيات والمصانع والجامعات والأماكن الأثرية؛ مما ينتج اقتصادا تقليديا، كل هذه الظروف ساعدت في انتشار المفاهيم التقليدية في المجتمع السوداني وازدادت وتيرة التناقضات في داخل المجتمع الواحد وحدث احتقان سبب حربا أهلية وفقرا يتمدد كل يوم وبنفس حجم الاحتكار لمصادر الاقتصاد، يتم احتكار المجال العام عبر بث خطاب القبيلة والعرق، والخطاب الديني الذي يستخدم كمصدر للشرعية لتحديد صلاحية الحاكم و قداسته ووضع الانتماء للحزب مكان الانتماء للوطن.
 

لكن بالرغم من هذا العقل التقليدي المسيطر على الدولة والاقتصاد والثقافة إلا أن مع انتشار وسائل الاتصال الحديثة حدث ارتداد للذات، وتوسع أفق الفرد بالخصوص الشباب؛ لأن هذه الوسائط أنتجت فضاءات حديثة، وأصبحت المعلومات تتداول بين الكل، لا يوجد هناك احتكار المعرفة، كما يوجد على المستوي الاقتصادي، وحدث تغير في طبيعة النقاش في الأماكن العامة تختلف من طبيعة النقاش في المجتمعات التقليدية التي كانت تدور على مستوي الدولة بما يشبه النقاش في داخل الأسرة أو مجتمع القبيلة.

في النهاية يرجع الأمر للأب أو الشيخ أو أهل الحل والعقد، هم يملكون صلاحية في صنع القرار والمناقشة خارج هذه التجمعات، والصلاحية كانت عبارة عن إعداد للفعل الذي يتخذه الأشخاص أنفسهم في داخلها عند نهاية المطاف، وليست المناقشات غير الرسمية مفصولة عن فضاء الدولة أو السلطة، ولكن مع الوسائط الحديثة يختلف طبيعة النقاش، فالقضاء العام هو فضاء للنقاش، ينظر إليه على نحو مدرك باعتباره خارج السلطة، ويفترض أن تستمع السلطة إليه، لكنه في ذاته ليس ممارسة للسلطة، فحالته خارج السياسية بهذا المعنى بالغة الأهمية، هذا ما يجبر السلطة على أن تخضع لتدقيق شيء ما خارجها ومراقبته.

الحكومة لا تكون حكيمة فحسب إن هي اتبعت واهتمت بالرأي العام، بل هي ملزمة أخلاقيا، إذن المجال العام هو محل أحكام الآراء العقلانية التي ينبغي أن ترشد الحكومة .

إذن ما يفعله المجال العام الحديث هو تمكين المجتمع من الوصول إلى تصور مشترك منير فيه توسيط المجال السياسي، وذلك ضمن خطاب عقلي خارج السلطة، على الرغم من أنه يظل معياريا بالنسبة إلى السلطة؛ لأن المجال العام الحديث محل مناقشة تشمل الجميع مني الاحتمال، وفيه يستطيع المجتمع أن يصل إلى تصور مشترك في ما يخص المسائل المهمة.
 

وهذا التصور المشترك نظرة نسبية تنبثق من المناقشة النقدية، وليس مجرد مجمل أو خلاصة لمختلف الآراء التي ظهرت لدي الناس، إذن على الحكومة أن تصغي إليه؛ لأنه يمكن أن يكون هذا الرأي مستنيرا؛ ما يعني أن من الحكمة أن تأخذ الحكومة به، وكذلك أن الناس التي تجتمع في مواقع الاتصال الاجتماعي هم أشخاص واقعيون، أي لهم الوجود الموضعي كمواطنين في الدولة، ويعني هذا أنهم أصحاب سيادة، والحكومة لا تكون حكيمة فحسب إن هي اتبعت واهتمت بالرأي العام، بل هي ملزمة أخلاقيا، وتستمد شرعيتها من هذا المجال، إذن المجال العام هو محل أحكام الآراء العقلانية التي ينبغي أن ترشد الحكومة .
 

كل هذا التراكم الموضعي للنقاشات حول الاقتصاد والانتهاكات التي تقوم بها الدولة وفساد رجال الدولة والبحث عن البديل أو المخرج من المآزق أنتج الروح المشتركة الأخيرة التي تمظهرت في العصيان المدني بتاريخ 27 نوفمبر، وهذا هو مؤشر ظهور مفهوم الدولة الحديثة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.