إنه أدب يدفع بالباحثين إلى النبش في أعماق النصوص الأدبية لاستخلاص مقومات هذا الصراع، الذي يتطور بتطور أزمة القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي. وإذا تأملنا بعيدا عن إشكالية الصهيونية، سنجد أن الأدب الإسرائيلي ينفرد بطابعه الذاتي، حيث تندمج السيرة الذاتية بالخيال، لتخلق لنا عوالم أدبية، تعكس مدى عمق الجرح الوجودي الذي يعانيه الأدباء الإسرائيليين، كل واحد على حدة. ويعتبر عاموس عوز من الأدباء الأكثر تأثيرا في الأدب الإسرائيلي المعاصر، كيف لا وهو الأب الروحي لهذا الأدب العابر لكل الأزمة والأمكنة. فعاموس عوز هذا، يحاول جاهدا عكس صراع الثقافات على طريقته، وذلك من خلال الكشف عن علاقته الحميمية باللغة والمجتمع، سواء أكانت عربية أو إسرائيلية.
| كان أبي مثقفا من اليمين، وقد قررت أن أصبح سائق جرار اليسار. أردت أن أكتب لكني لم أستطع، اليوم جعلت من والدي كما لو أنهم كانوا أطفالي، في بعض الأحيان تافهين، وفي البعض الأخر متوحشين. |
يتحدث الأديب الإسرائيلي البارز والمفكر اليساري وناشط السلام عاموس عوز، إذن، عن تأثير معيشته السابقة في تجمعات "الكيبوتس" السكانية على شخصيته، وكيف أنها شكلت مصدر إلهام لشخصيات روايته المعنونة: "بين الأصدقاء". ويشدد على الفرق بين عقلية مَن قطنوا فيها وبين المستوطنين، الذي يسعون إلى سلب أراضي الضفة الغربية، ويحظون بتمثيل أكبر من حجمهم في السياسة الإسرائيلية.
إن مؤلفات عاموس عوز، تجعل القارئ أكثر انفتاحا على الأخر في طابعه الوجودي والإنساني. فالكاتب يسعى جاهدا إلى ربط علاقة التواصل بين الحضارة العربية والإسرائيلية عبر الدعوة إلى التحلي بالقيم الإنسانية وترك الصراع جانبا، لأنه لن يفيد الإنسانية في شيء. فعاموس عوز من مواليد مدينة القدس، ويحمل في ذاكرته تاريخ الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويرفض رفضا قاطعا أن تكون هناك حدود بين الحضارتين في علاقتهم الإنسانية.
ففي كتابه "قصة حب والظلمات"، يحكي الكاتب طفولته في أحد الأحياء الفقيرة بمدينة القدس، كما يروي مأساة انتحار والدته خلال غيابه، ولم يكن يبلغ من العمر يومذاك سوى 12 عاما. وبعد سنتين من هذه الحادثة يترك الكاتب أباه، محملا إياه سبب انتحار أمه، ليتمرد على عالم أبيه قائلا: "في سن الرابعة عشر، تمردت على عالم أبي وقيمه وتقاليده ورحلت أعيش في كيبودز. كان أبي مثقفا من اليمين، وقد قررت أن أصبح سائق جرار اليسار. أردت أن أكتب لكني لم أستطع، اليوم جعلت من والدي كما لو أنهم كانوا أطفالي، في بعض الأحيان تافهين، وفي البعض الأخر متوحشين. أناس لا يسافرون بعيدا، إنسانيون وحزينون".
بهذه الكلمات يعكس لنا عاموس عوز عمق التجربة التي عاشها في طفولته. فالوحدة كانت رفيق الدرب في الطفولة لتتحول إلى الفضاء الرئيسي في كل مؤلفاته، خاصة في كتابه "وحيد البحر". إن عاموس عوز، يحمل صوت المستقبل المشرق للإنسانية، ويدعو إلى احترام الآخر في إنسانيته وتاريخه. وبعيدا عن الحرب والدم، اختار عاموس عوز أن يحمل شعار السلام والحب، فكل شخصياته عبارة عن رسل ينشرون الحب ويشهدون على المجازر التي ارتكبت في حق الإنسانية. إنها شخصيات تزعج اليمين المتطرف الداعي إلى العنف والقتل. وهنا يتضح أن الكاتب لا يؤمن بجود صراع بين الثقافة العربية والإسرائيلية، بقدر ما يؤمن بوجود الإنسانية، التي تجمع بين البشر، رغم اختلاف دينهم وعقائدهم وألوانهم.
فصراع الثقافات، ليس إلا نتاج لطبقة معينة، تحاول رسم صورة نمطية حول نوعية العلاقة التي تجمع بين العرب الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين. لكن معظم الكتاب الإسرائيليين، يحاولون ربط جسر الجوار من خلال كتاباتهم، عاكسين بذلك عمق العلاقة التاريخية التي تجمع بينهم. وتُعدّ الكاتبة الإسرائيلية "يوديت كاتسير" إحدى أبرز الكاتبات الشابات في إسرائيل، التي غالبا ما تكتب حول نساء قويات الشخصية، تأخذنا معهن في رحلات إلى الماضي. وفي أبرز روايتها التي تحمل عنوان "تسيلا"، وهو اسم والدة جدتها، تمضي معتمدةً على رسائل أم جدتها في رحلة أدبية إلى غزة. وتحكي هذه الرواية قصة "تسيلا" التي عاشت مع عائلتها اليهودية 25 عامًا في سلام ووئام إلى جوار جيرانها العرب في غزة. هذه الرواية من الأمثلة الحية على وجود روابط الجوار بين الحضارتين، ولا أحد ينفي أن لليهود والعرب تاريخا حميميا يغلب عليه طابع الأخوة والتعايش والتسامح.
وفي كتاب "التمرد على الصهيونية" وضح الباحث الدكتور محمد عبود، أن الأدب الإسرائيلي المعاصر يسعى جاهدا في إعلاء قيم التمرد على السلطة الأبوية، وسلطة الأسرة، والتمرد على سلطة الثقافة الغربية الاشكنازية السائدة، والدعوة لاحترام وقبول الثقافة العربية التي ينتمي إليها اليهود العرب، وهو أمر مستفز للطبقة الاشكنازية السائدة وللمؤسسة الحاكمة في إسرائيل. ويستكشف الكتاب روح التمرد على الصهيونية في الأدب الإسرائيلي المعاصر، من خلال نوع أدبي له أهميته وحضوره السردي الكثيف على مسرح الآداب المكتوبة باللغات المختلفة؛ ألا وهو القصة القصيرة.
| الحركة الصهيونية تعمل على شرعنة أعمالها باسم الأقلية والوعد التاريخي المقدس. لكن يجب التذكير أن هناك مكونات ثقافية من داخل إسرائيل ترفع شعار السلام وتدعو إلى التحلي بالإنسانية. |
وتتناول القصص محل الدراسة في كتاب "التمرد على الصهيونية" عددا كبيرا من القضايا محل النقاش العام في إسرائيل مثل: أزمة اغتراب المثقف الإسرائيلي المعاصر، وأزمة الفرد وعلاقته بالهوية، وصراع المرأة مع بقايا المجتمع الأبوي الذكوري، وتجليات التطرف الديني، ومظاهر الانحلال الخلقي لدى رجال الدين في المعاهد التلمودية العليا، ومآل الصراعات القديمة الجديدة بين السفارد والاشكناز ووضعية فلسطيني 1948 داخل النسيج الاجتماعي الإسرائيلي، وأزمة الوعي لدى الجندي الإسرائيلي على خط المواجهة مع الفلسطينيين، ومعاناة المهمشين والمحرومين في المجتمع الإسرائيلي الرأسمالي، وغيرها من القضايا المهمة التي تفرزها طبيعة العلاقات داخل المجتمع الإسرائيلي المعاصر.
إن أزمة العلاقة التي تربط بين الثقافتين، هي بالأساس نتاج لصراع سياسي يؤثر على الجانب الثقافي في كل تجلياته. فالمكونات الثقافية الفلسطينية المناهضة للصهيونية، تحاول كشف القناع حول نوعية السياسات التي تمارسها إسرائيل في حق الفلسطينيين، كما أن الحركة الصهيونية بدورها تعمل على شرعنة أعمالها باسم الأقلية والوعد التاريخي المقدس. لكن يجب التذكير أن هناك مكونات ثقافية من داخل اسرائيل ترفع شعار السلام وتدعو إلى التحلي بالإنسانية وتقوية علاقة الجوار بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما يتضح ذلك في العديد من المؤلفات الإسرائيلية.
ورغم النزعة العنصرية التي يتميز بها الأدب الإسرائيلي في بعض الأحيان؛ والمتمثلة أساسا في إحدى مكونات الإيديولوجية الصهيونية عن طريق محاربة اندماج اليهود في المحيط الثقافي العربي "الفلسطيني"، خاصة الكاتبة "أنا جرينو" التي تتعالى دائما في قصائدها وتعتبر نفسها فوق الآخر. إلا أن هناك رواد من الأدب المعاصر يحاولون التمرد على هذه القاعة، وخلق جسور التعايش عن طريق الدعوة إلى التحلي بقيم الإنسانية والتسامح.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

