هذا الجنون الذي نجاريه لا نعرف حقا نهايته، هل رئاسة دولةٍ ما في عمر يناهز التسعين لشعب جله من الشباب أمر اعتيادي أم ضرب من الجنون؟ أم أن أحلام الصبا تتحقق ابتداءً من الثمانين؟ هل التهريج و سرقة الخطابات والعنصرية المفرطة كفيلة بالاستحواذ على كرسي العرش لأعظم دولة؟ أم أن المال هو الكفيل بتغيير وصنع الأفكار والآراء؟ ربما من السذاجة أن نعتقد أننا بأفكارنا نصنع المال وليس هو من يصنعنا، ربما نفس السذاجة كانت تمنعنا من رؤية قبح هذا العالم المُثقَلِ أهلُه بالأنين والحسرات. هذا لا ينافي طبعا وجود الجمال والأمل، فهي النوافذ التي نستمد منها القوة لمجابهة كل هذا البُؤس. لكن تسليط الضوء في هذه المرة سيكون على الجانب السوداوي من الحياة، و الذي لا يمكن أن ننكره أو نجزم بعدم وجوده.
عقلي لا يزال معذبا غير قادر على استيعاب كل هذا الكره المكبوت في هذا الإنسان، أي كره و حقد يجعل شخصا فرحا ومبتهجا لمقتل شخص بريء مهما كان انتماؤه أو بلده. |
فعقلي حقا يعذبني، مع اختلاط المفاهيم لم يعد من السهل التمييز بين الخطأ و الصواب، الحلال والحرام، العادي والمريب، الخير والشر. فكل تركيبات التناقض اختلطت، فبالتالي لم يعد هنالك مجال لتأنيب الضمير ما دام العقل ليس حازما في مفاهيمه. ليست المسألة شاملة أو عبثية، ففي كثير من الجوانب الحياتية يعترضنا هذا المشكل.
ليس من السهل تقبٌل تعسف عقلك عليك، ربما هذا كلام لا يفهمه الكثيرون أو لم يعايشوه، لكني أعايش هذا بين فترة وأخرى، فعقلي يجبرني أحيانا أن أحيد عن مساق الحياة وألوانها لينفرد بي، ثم ينهال علي بأسئلة وجودية مصيرية حياتية، ليسألني عن ماهية الوجود وأسبابه، عن التشريعات والأديان، لماذا أختار كذا وليس كذا، يسألني عن كل هذا الخلط في الوجود، عن قناعاتي والمؤثرات التي يمكن أن تغيرها، أسئلة لاذعة عن أهمية الدين في حياة الإنسان، عن مفهوم السلام، أحاول جاهدة إيجاد أجوبة مقنعة لكل أسئلته أوأوهمه بذلك، معتمدة على تفسيرات روحانية، عادةً ما تشعرني بالسلام، إضافةً إلى أخرى فلسفية. وهو ما زاد من سعيي إلى العناية بزادي المعرفي الذي أحاول في كل مرة إثراءه أكثر فأكثر، تحسبا لأي مباغتة أخرى من هذا القبيل.
لا أنجح دائما في الإفلات من تمرد عقلي أو إقناعه، خاصة عندما يعارض الواقع إجاباتي، فمثلا عند السؤال عن المغزى من الاختلاف، لماذا نحن مختلفون في الدين والحضارة واللغة، بالتأكيد أجيب لإثراء الإنسانية وللمكتسبات الفردية، لكن إن كان إثراءً حقا، فلماذا يوجد كل هذا الميز العنصري في كل مجالات الاختلاف، لما كل هذا التحيز واستعلاء فئة على أخرى؟ لماذا كل هذا الحقد والكره الذي يسود العالم؟ عن أي سلام يمكننا أن نتحدث بعد كل البؤس الذي نشاهده يوميا، موتى وجرحى ولاجئون محرومون من الحياة، خوف واستبداد و ظلم، هذه ماهية هذا العالم التي نتجنب الاعتراف بها، لأنه لا حيلة لنا أمام هذا الحال.
شاهدت مؤخرا فيلم "ذو بيانيست" أو بالأحرى لم أتمم مشاهدته، يتحدث هذا الفيلم عن شاب بولندي يهودي عازف بيانو عايش الحرب وإبادة اليهود آنذاك، لم أستطع إتمام الفيلم لبشاعة المشاهد والظلم الذي سُلِط على الإنسان، الإنسان اليهودي الذي سُلب حقوقه وسُلطت عليه أبشع أنواع الظلم والإبادة، فقد صور الفيلم معاناة اليهود آنذاك بطريقة درامية مؤثرة، تجعلك حتما تنحاز لهم وتتعاطف معهم، كيف لا؟ والإنسان ذو الفطرة السليمة يصطف إلى جانب كل مظلوم مهما كان عرقه أو دينه.
في الأثناء تبادر إلى ذهني الألم الذي يعتصر العالم العربي، وما يمر به من أزمات متتالية بدون هوان، هل هناك فيلم يصور الواقع المرير الذي عايشه الفلسطينيون والسوريون و غيرهم ليشاهده العالم، ويفضح الإجرام في حق الإنسانية؟
لولا الأمل الذي يحيا فينا بين الفينة والأخرى ، ولولا الإيمان بالله وبأنَ غدًا أفضل لهجرتنا أرواحنا منذ أمدٍ بعيد. |
ليصلني بعد أيام الجواب على سؤالي، حين شاهدت على الشاشة خبر تهجير أهل حلب وهدم بيوتهم وهتك أراضيهم والاستيلاء على كل أملاكهم، فلا أظن أن هناك فيلما سيكون أبلغ من الواقع، الواقع الذي يعبر في ظاهره، و يحمل في طياته ألمًا و جرحًا لن يندملا، ألم الطرد من الموطن بدون إبرام ملتقى في الأفق، و جرح التخلي عن كل الذكريات الجميلة والدفء والممتلكات التي لها مكانة خاصة في القلب. ليس من السهل أبدًا أن يدير الإنسان ظهره لكل هذا ويمضي بدون وجهة، يمضي ولا يعرف أين المستقر أو الملاذ الآمن. فها هو العالم يصور لنا دراما واقعية لا تحتاج إلى ممثلين بارعين أو مخرج محترف، فقط هو يصور لنا وحشية الإنسان و تماديه في اللاإنسانية و كأنه يحن للقرون الوسطى.
عقلي لا يزال معذبا غير قادر على استيعاب كل هذا الكره المكبوت في هذا الإنسان، أي كره و حقد يجعل شخصا فرحا ومبتهجا لمقتل شخص بريء مهما كان انتماؤه أو بلده، كيف لذات الشخص أن يتذمر من الإرهاب وهو يمارسه بشكل آخر، صار الكل يحاسب بعضه بعضا دون خجل متناسيا أنَ الله وحده هو من يحاسبنا.
لولا الأمل الذي يحيا فينا بين الفينة و الأخرى ، و لولا الإيمان بالله و بأنَ غدًا أفضل لهجرتنا أرواحنا منذ أمدٍ بعيد. حقيقةً لم نعد نقوى على المزيد من الأوجاع والمآسي، فلا يجب أن نضيق على أنفسنا أكثر، فإننا نختنق!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.