شعار قسم مدونات

لا تعادي أبو تريكة.. فنحن نحبه

blogs - Trika

قال الباسل لحفيده ذات مرة أن البني آدم يولد بقلب كبير وعقلٍ ضيّق. وكلما كبر عمره، اتسع عقله، وضاق قلبه. ولكن السنوات مرّت على تريكة وكبر في العمر والمقام، وبقي قلبه يسع محبة الجميع. فكن ذكيًا ولا تعادي أبو تريكة.. فنحن نحبه.

(1)
نحبه لأن السعادة في حياتنا عبر السنوات القليلة الماضية ارتبطت بلحظات الفرحة في كرة القدم، وفي كل مرة يختار القدر وجهه بعناية كي يصبح بطل اللحظة الختامية. في عام 2006 كان يمكن لأحمد حسن أن يحرز ضربة الجزاء التي احتسبها الحكم في الوقت الإضافي أمام ساحل العاج ويحسم فوز مصر، لكن هذا لم يحدث.

النجم يأتي فيمنحنا الألقاب والأرقام ثم يرحل. أما البطل فهو واحد منا، لن يرحل عنّا لأنه ينتمي لنا، ولن نتخلى عنه لأننا لا نتخلى عن أنفسنا.

كان يمكن لعبد الحليم على أن يحرز ضربة الترجيح التي أضاعها، ولا يكون هناك حاجة لاستكمال الضربات حتى نهايتها، ويُعلن فوز مصر مع ضربة عمرو زكي، لكن هذا لم يحدث. كان يمكن لعصام الحضري أن يتصدى لضربة الترجيح الأخيرة للعاجيين، لكن القدر انتظر تريكة حتى النهاية، كي يخلد مشهده هو وقد نشر الفرحة في أرجاء العالم كما يقول معلق المباراة.
في 2008 كان هناك زيدان وسونج، وضربة جزاء صحيحة يمكن أن يحتسبها الحكم، ويتصدى لها حسني عبد ربه كالعادة، ويعلن فوز مصر. لكن الصافرة تأخرت لثانية واحدة، كانت كافية لأن تصل الكرة لقدم تريكة. ثانية واحدة حباها القدر له كي يرتبط وجهه بالفرحة للمرة الثانية.
يُجمع مشجعو الأهلي المصري أن لحظة هدف أبو تريكة في نهائي دوري الأبطال أمام الصفاقسي 2006 هي أسعد لحظة في حياتهم. لحظة طويلة مثل الكرة التي أرسلها شادي محمد ناحية رأي متعب، ثم إلى رأس فلافيو، ثم قدم تريكة اليسرى. لحظة حادة من الفرح الصافي الذي نسينا فيها كل شيء في هذه الحياة، وتضاءلت فيها كل التفاصيل، وأصبحت أقل أهمية من حقيقة أن أبو تريكة فعلها مرة أخرى في الدقيقة 90. وجمهور الأهلي يحب الدقيقة 90. قال الشوالي عنهم ذات مرة أن "ربك يحبهم، والكورة تحبهم، وهما يحبوا أنفسهم، ولذلك دائمًا يفوزون". يجب على أي فتاة ألا تصدق أنها جميلة مثل هدف في الدقيقة 90، لكن هدف تريكة أجمل. فلا تعاديه.. لأننا نحبه.
(2)
لقد اعتدنا كمصريين على نوع من الفخر الطفوليّ بمجموعة من التفاصيل البسيطة تميزنا عما حولنا. في الغرب ترتبط صورتنا بالأهرامات والفراعنة، وبين العرب نحن الأقدم والأعرق. وينظر الآسيويون والأفارقة إلى الأزهر. ومع مرور الزمن صارت هذه الكلمات كلاشيهات ثقيلة على القلب، وغير قابلة للتصديق وسط قطاع كبير من الناس. وبعد فشل ثورة يناير تفاقم الأمر، وأصبح من العسير أن يجمع الناس على أي شيء. فكل شخص أو حدث أو فكرة يتمزّق بقسوة بين معسكري الكارهين والمحبين. إلا أبو تريكة.

أحد الأصدقاء كان في طريق عودته من كيب تاون جنوب إفريقيا إلى جوهانسبرج عبر الأتوبيس كي يلحق بطائرته إلى مصر. وبعد أن فقد ما تبقى من نقود صار مجبرًا على الانتظار في محطة الأتوبيس لمدة 16 ساعة، مما أثار ريبة أحد رجال الشرطة هناك. فذهب إليه عابس الوجه وسأله عن جواز سفره، ثم تحول وجهه إلى الابتسام قائلاً: مصر .. أبو تريكة، وسمح له بالبقاء. لقد ارتبطت مصر في أذهان الناس باسم تريكة، وفي ذلك ما يدعو للفخر.

تريكة هو أهم وأقوى رجل في مصر، لأنه حالة الإجماع الوحيدة التي نعرفها الآن. إجماع سببته المحبة لا القوة. فإن أردت معاداته يجب أن تعلم أنك في مواجهة مع عموم الناس وليس فئة بعينها.
(3)
جماهير كرة القدم لا تبحث عن نجومها بقدر ما تبحث عن أبطالها. توتي هناك على عرش روما، وجيرارد هو أهم رجل في ليفربول، ديلبييرو لن يملأ فراغه أحد في يوفينتوس تورينو، ويمكن للجميع أن يرحل عن دورتموند إلا رويس، وتريكة هو بطلنا. النجم يأتي فيمنحنا الألقاب والأرقام ثم يرحل. أما البطل فهو واحد منا، لن يرحل عنّا لأنه ينتمي لنا، ولن نتخلى عنه لأننا لا نتخلى عن أنفسنا.

لم يقدم "أبو تريكة" لنا نفسه لاعبًا قديسًا خلوقًا، وفعل مثلما يفعل لاعبو الكرة من شد وجذب وانفعال وربما غطس من أجل ركلة جزاء، لكن ابتسامته الودودة كانت صادقة دومًا فأحببناه.

لا يجهل أحد صراعات الأهلي والزمالك على ضم كل لاعب يظهر نجمه في الدوري المحلي. ولا يجهل أحد كيف حسم الأهلي قدوم أبو تريكة بلقاء واحد مع محمود الخطيب. لقد قدّم نفسه منذ اللحظة الأولى كمشجع للأحمر، ولم يزد على ذلك، فصدقه الجميع. وجماهير كرة القدم ذاكرتها قصيرة، فربما تنسى كل ما قدمت وتمطرك بالسباب مع أول خطأ، لكنه كان استثناء. شعرت الجماهير طيلة مسيرته أن تريكة مشجع مثلهم، لكن حظه السعيد جعله لاعبًا، وأنه لن يدخر جهدًا وسوف يبذل طاقته كاملة.

بعد إصابة عام 2010 التي لحقت به بات واضحًا أن مسيرته أوشكت على الانتهاء. وصار ظهوره في الملعب أقل وضوحًا ولكن في كل مرة أخطأ فيها لم يتهمه أحد بالتقصير. ولم يسبه أو يضيق به المشجعون. بل كانت مشاعرهم أقرب إلى التعاطف دومًا. واختار القدر له اللحظة الختامية المثالية في نهائي دوري الأبطال 2013 أمام أورلاندو. خرج من الملعب بطلاً مشاركًا أساسيًا في التتويج. خرج بلقطة مسرحية لا يجيدها في المعتاد، لكن إنحاءته أمام جماهير الأهلي كانت صادقة، فخلدت في أذهانهم كصورة أخيرة سوف يتذكرونها إلى الأبد. وبعد اعتزاله، يأتي طيفه في أذهانهم ويبحثون عنه كلما تعثر الأمر من أجل إنقاذ الموقف، لكنهم لا يجدونه في الملعب، فيتذكرون صورته ويكررون الهتاف الأبسط والأصدق.. يا تريكة!
(4)
لم يقدم لنا نفسه لاعبًا قديسًا خلوقًا، وفعل مثلما يفعل لاعبو الكرة من شد وجذب وانفعال وربما غطس من أجل ركلة جزاء، لكن ابتسامته الودودة كانت صادقة دومًا فأحببناه. ولم يقدم نفسه عبر وسائل الإعلام خبيرًا في كل شيء. ولم يقدم نفسه عبر تويتر إلا مازحًا مع هذا وذاك. وكل ما عرفناه عن علاقته بأسر الشهداء كان من قبيل الاكتشاف مصادفة. فضّل أن يفعل ولا يتكلم. وأن يتحمل مسؤولية أفعاله حتى النهاية. لأن الكلمات شديدة السهولة إلى أن يصير لها ثمن، حينها تتحول إلى مواقف. ولا يحتاج المرء أن يكون متدينًا أو حتى مؤمن كي يستشعر أن معنى "أتته الدنيا وهي راغمة" ينطبق بشكل حرفي على هذا الرجل.

يُقال أن الكبير هو "إللي يخلّي باله على أهله".. وهذا هو تريكة، فلا تعاديه.. لأننا نحبه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.