مزيد من سنوات الحصاد الدامية؛ يتطلب مزيدًا من الحفر في جدل البذور والثمار فيما يتعلق بالتيارات القتالية – الجهادية – وعلاقاتها ببذورها البعيدة في صورة الوهابية، والقريبة في صورة السلفية العلمية.
(1)
لا شك أن ما سبق رصده وتحليله في المقال السابق عن المدونة الوهابية وتصوراتها حول مسألتيِ التكفير والقتال، ثم ممارساتها العملية حول هذين الموضوعين؛ كان له أثر ظاهر على التنظيرات والتطبيقات الجهادية السلفية المعاصرة.
إن غالب الإشكالات التي تنطلق منها التيارات القتالية تنبني على التكفير الذي ييسر استباحة القتل والقتال. فإنه وإن كان من الصحيح أن التكفير لا يستلزم استباحة الدماء وغيرها من الحقوق، وأن تلك الاستباحة أيضًا لا تتوقف على التكفير كشرط؛ إلا هذا صحيحٌ نظريًّا فحسب. أما واقعيًّا فإن التكفير هو الذي يزيل العائق الأكبر أمام تلك الاستباحة.
الالتزام المبدئي بالخطاب الوهابي، جعل ذلك الخطاب السلفي المعاصر مساهمًا بدرجة ما في نشوء وترعرع تيارات القتال المتشددة المعاصرة |
شيوع التكفير وعدم الإعذار بالتأويل والخطأ، فضلا عن التكفير بالشبهة والظن، والتكفير باللوازم والمآلات، بل وكونهم يكفرون بالطاعات أحيانًا، كبعض التصرفات السياسية المشروعة التي يجري تكييفها كخيانة أو جسّ أو مظاهرة للكفار؛ كل ذلك يستند في كثير من مبانيه إلى التأصيلات الوهابية، في تكفير من تلبس بالكفر الجلي، وعدم إعذاره مطلقًا، وقتاله قتال المشركين، والتوسع المبالغ فيه في التكفير بالمظاهرة والموالاة. وبخاصة مع الإغراق في استعمال تلك التأصيلات مع دخول السيف السلطاني في ممارستها، بل وحتى التنظير لها، فنحن نلحظ رسائل وكتابات غير قليلة في المدونات الوهابية تتضمن تكفيرًا واستباحة للقتل والقتال لأمراء وملوك ليسوا من أهل العلم بالاصطلاح الفني أصلًا.
مسألة تكفير الدول والتوسع في استطراق ذلك الكفر في الحكومات والمتعامل معها بكثير من صور التعامل؛ هو استنساخ للتجربة الوهابية حول تكفير الدولة العثمانية بعد صدامها بالوهابية في نسخة الدولة الأولى. وقد لاحظنا اهتمام بعض منظري الجهاديين بالاستناد إلى التأصيلات العثمانية في ذلك، حتى كتب بعض منظّري الجهاديين في كفر الدولة العثمانية عند الوهابية، مجابهًا سجالَ السلفية المدخلية حول ذلك، وتخوُّفَ السلفية العلمية من الإقرار بذلك حتى لا تُلْزم بلوازم لا تحمد عقباها، ولا تعيد تجربة (إخوان من طاع الله) المريرة، العِفريت الذي لم يقدر من حضَّره أن يصرفه.
حتى الألفاظ الشائعة في المدونات الوهابية نجد لها رواجًا في الأدبيات الجهادية: الولاء والبراء، والطاغوت، وملة إبراهيم؛ جميع ذلك من معجم المدونات الوهابية، ونحن على علم بأصولها الشرعية ولكن مساحة تداولها في السياق العلمي لم تكن كثيفة كما كانت في المدونة الوهايبة، والأهم من ذلك هو تداولها في سياق تحقق مناط معيّن مفترض قد خولفت الوهابية في تحقيقه أو تحقيق بعضه، ثم اعتُبِر مخالفها فيه أو في بعض أفراده مخالفًا لها في نفس مفهومه لا في تحقق مناطه أو تحقيقه. وكذلك التسمي بالموحدين، ومنبر التوحيد والجهاد، باعتبار مضادة التوحيد شركًا أكبر، ثم هو لا يُعذَر فيه بالجهل والتأويل – المكون الديمقراطي يحتل مساحةَ الضوءِ الخاصة بمكوِّنِ صرف العبادة في التصور الوهابي، باعتبار كليهما صرفا لعبادة واجبة لله لغير الله: التحاكم كالدعاء -. وعدم العذر تيار عريض عند الجهاديين، وقد يعذر بعضهم لكن لا يرتب على ذلك ثمرة من جهة القتال، ولكن الذي لا يمكن إنكاره أن شيوع تيار التكفير المطلق هو الذي وقعت له الغلبة بعد ذلك.
(2)
نرجع مرة أخرى إلى السلفية المعاصرة، وبخاصة في صورها العلمية، والحركية القريبة منها، فإنها هاهنا تتضافر بصورة واضحة مع العامل الوهابي في إثمار تلك الثمرة. وذلك من خلال أمريْن: موقفها من المدونة الوهابية وتصوراتها للتكفير والقتال/ وطبيعة اشتغالها العلمي.
يمكننا رصد موقف السلفية المعاصرة من المدونة الوهابية وتصوراتها سالفة الذكر في: الاشتغال البحثي، وخطاب الرموز.
يمكن تقسيم مواقف الباحثين السلفيين المعاصرين من الخطاب الوهابي إلى أربعة مواقف:
للسلفية المعاصرة نصيبًا آخر من المساهمة الإثمارية في تشكل التيارات القتالية أعمق من موضوع الاشتباك مع الخطاب الوهابي |
موقف المنكرين إنكارًا حقيقيًّا لإسناد تلك المقالات للدعوة الوهابية، واعتبار أنها كانت تقول بالعذر بالجهل، بالاستدلال ببعض النصوص العامة لأئمة الوهابية فيها ترتيب الحكم بالتكفير على بلوغ الحجة أو قيامها أو بيانها، مع عدم النظر في معنى ذلك عندهم، المنصوص عليه في رسائل صاحب الدعوة نفسه، فضلًا عن الممارسة العملية التي ترتبت عليه، وهي السياق المعين على والمصحح لفهمه، وقد أشرنا إلى معنى ذلك في المقال السابق.
وموقف المنكرين إنكارًا شكليًّا أو فارغًا، والمؤيدين في الواقع للدعوة الوهابية في تقريراتها السابقة، بصورة ملتوية. فيعتبرون ما يذكر عن تكفير الوهابية لمخالفيها المسلمين من دعاوى المناوئين، ثم يكون الجواب إن الوهابية لم تكفر المسلمين، أو لم تكفر جميع المسلمين، إنما كفرت (المشركين)، ثم يقررون جميع ما قررته الوهابية من المناط المكفر وتحقيقه وعدم العذر فيه، فلا يكون لإنكارهم معنى؛ فإن محل النزاع مع الوهابية ليس عموم المسلمين الذين لم يتلبسوا بالممارسات الشركية وفق الوهابية، ولكن في المسلمين الذين تلبسوا بالممارسات الشركية وفق الوهابية، وبلغتهم الدعوة الوهابية ثم لم يستجيبوا لها إما بنوع من النظر والتأويل والاشتباه، أو بالتقليد لعلمائهم، فهؤلاء هم (المشركون) الذين قاتلتهم الدعوة سائرة فيهم سيرة المشركين، بالسبي والغنم، وهم محل النزاع نفسه سواء في تسميتهم مشركين أو في قتالهم قتال المشركين، وبذلك يكون ذلك الجواب مجرد مغالطة، وليس أكثر من (حكاية المذهب)، الذي يعتبر وفق أصول الجدل ليس بجواب أصلا. فهم في الحقيقة يقررون تلك المباني، وينسبونها لابن تيمية، ولأهل السنة، وقد لا يصححون فيه خلافًا أصلًا، ويعتبرون الخلاف فيه شاذًّا أو باطلًا وإرجاءً، وليس من مقالات أهل السنة.
وكثير من هؤلاء الباحثين قد يتمادون في تلك الحالة من الإنكار، لدرجة تسويد المقالات والدفاعيات في نفي أن يكون في المدونات الوهابية تكفير بالعموم، أو تعيين لجماعات واسعة وطوائف وبلدان وعلماء بالتكفير، أو عدم توقف ذلك على شرط معتبر في فهم الحجة وإزالة الشبهة، إلى درجة التدليس والمخادعة في النقل الذي لهم، والتعامي عن الذي عليهم، إلى حد يقطع معه القارئ العارف بكونهم متعمدين لذلك، أو يكونون غير مطلعين على ما يدافعون عنه.
وتبقى قلة راديكالية من الباحثين السلفيين، يجهرون بنفس المباني الوهابية ولوازمها، ويُقِرون بما في المدونات من تكفير عمومي، ويواجهون المخالفين في ذلك بالإرجاء في حالة مخالفة التأصيل، أو بالتمييع في حالة الإنكار الملتوي سابقة الذكر.
وتبقى قلة أقل، إصلاحية، تثبت وجود تلك الأقوال، وتنقدها مبينة خطأها ومخالفتها لتأصيلات أقوى منها، كالتأصيلات التيمية.
(3)
الأمر نفسه يمكن سحبه على خطاب الرموز السلفية النجدية على وجه التحديد. فهي تتبنى التقريرات الوهابية في التكفير وعدم العذر بالجهل والتأويل بعد بلوغ الآيات وسماعها، وتلتزم التكفير العام للمتلبس بالنواقض الجلية كالشرك، وتقرر أن العوام من هؤلاء كفار كعوام اليهود والنصارى. وظهرت تجليات ذلك في فتاوى التكفير لبعض الأشخاص، كبعض مشايخ الصوفية بمكة، أو التكفير العمومي للشيعة واعتبار عوامهم كعوام اليهود والنصارى، وتكفير كل من ينتمي ولو اسميا لبعض الأحزاب والتيارات كحزب البعث، فضلًا عن العودة بذلك على التيارات والفرق التاريخية، كتكفير عموم الجهمية، وإجراء القولين في الأشاعرة، بل حتى تكفير المعتزلة بالعموم كما قرر ذلك جميعه أشهر رمز سلفي نجدي.
فيما يتعلق الإشكالات الشرعية في التيارات القتالية، سواء العلمي منها أو العملي؛ فإنها ترجع في غالبها إلى الضعف الشرعي العام للمنظرين الأساسيين لتلك التيارات |
لا يخالف في ذلك إلا الخطاب العثيميني الذي يتبنى المباني التيمية في العذر بالجهل والتأويل دون تفريق بين مسائل أصول وفروع أو مسائل ظاهرة وخفية، ولكن العثيمين أيضا ينسب ذلك الرأي إلى ابن عبد الوهاب نفسه وفق قراءة ضعيفة للمدونة الوهابية كما هو واضح من طريقة استدلاله على إلصاق ذلك القول بصاحب الدعوة وأتباعه، إلى حد استشكاله بعض نصوص متن كشف الشبهات وفق تصوره أن صاحب الدعوة يعذر بالجهل، ولكنه لم يقع له تكفير عمومي في موضوعات كتلك السابقة، حتى الشيعة لم يكن يكفرهم ابن عثيمين بالعموم، بل أفتى بعدم منعهم من المساجد وأنه لا يكفر منهم أحد لم تقم عليه الحجة. أما الخطاب الألباني فهو بعيد أصلًا عن المباني الوهابية إلى درجة الغلو في عدم التكفير إلى حد يبلغ الإرجاء في كثير من صوره، والذي هو معه لا يجد حرجًا أن يرمي الوهابية بالغلو تصريحًا.
هذا الالتزام المبدئي بالخطاب الوهابي، سواء من بعض الباحثين أو بعض الرموز، وسواء على مستوى التبنّي الكامل، أم على مستوى عدم المصارحة النقدية معه بإبداء الخلاف حول ما يجوز أن يخالف فيه؛ جعل ذلك الخطاب السلفي المعاصر مساهمًا بدرجة ما في نشوء وترعرع تيارات القتال المتشددة المعاصرة، فإن السكوت في كثير من الأحيان نوع من التبنّي، كما ذكرنا سابقا حول موقف السلفية العلمية من الجامية، فكيف مع الممارسات المتبنية بوضوح.
(4)
لكن الخطاب العلمي النجدي نفسه قد تورط في تبعات ذلك لاحقًا مع إلزام خريجي مدرستهم من الجهاديين لهم بإكفار السلطات القائمة في أغلب البلاد بما فيها بلادهم للمخالفات في مسألة الحاكمية، ومسألة الموالاة، وذلك عقب حرب الخليج وتطبيقاتها الإشكالية في الاستعانة بالقوات الغربية، فضلا عن سياسة الانفتاح التدريجي التي بدأت في الرواج بعد السلطة القديمة، وظهور بعض التصرفات الحساسة التي جرى تسويغها من قبل الرموز، إلى درجة أنّ بعض هؤلاء التلاميذ المتحمسين لم يكتفوا بتكفير السلطة بل كفّروا هؤلاء العلماء أنفسهم تطبيقًا لقاعدة وهابية أيضا هي أن من لم يكفر الكافر أو حتى يتوقف في كفره أو يشك فيه فهو كافر، وحتى اضطر هؤلاء الرموز لتكرار تجربة مشايخ بواكير الدولة الثالثة مع راديكاليي الوهابية – إخوان من طاع الله -، فدبجوا فيهم الفتاوى ووصفوهم بالخوارج والشياطين والإرهابيين، وتبنّوا حتى التخندق والتماهي؛ التأصيلاتِ الجامية المدخلية في تلك المرحلة – كما أشرنا في مقال سابق -، حتى غيّر رمز سلفي مركزي موقفه من قضية التشريع العام للقوانين الوضعية وعدم اشتراط الاستحلال – جوهر التكفير في موضوع الحاكمية -، بعد أن كان قرره تطبيقا على الأنظمة القومية في كتابات قديمة؛ ليصف شيخه المفتي السابق، صاحب التأصيل الأشهر حول الحاكمية: أنه (ما هو بنبي)
(5)
إن إشكالات التيارات القتالية المعاصرة كثيرة. وليس جميعها متوقفًا على المدونة الوهابية، والتضامن السلفي المعاصر منها، بل إن للسلفية المعاصرة نصيبًا آخر من المساهمة الإثمارية في تشكل تلك التيارات أعمق من موضوع الاشتباك مع الخطاب الوهابي.
يمكن أن ترجع تلك التيارات القتالية إلى المدونات الفقهية، ولكن بصورة انتقائية ومختزلة، وتأويلية، وفقيرة أيضا، وهذا كله من السمات المشتركة للاشتغال السلفي العلمي في الفقه |
وذلك يتضح إذا فككنا إشكالات التيارات القتالية المعاصرة الكثيرة إلى: ما هو علمي شرعي، وما هو عملي تطبيقي، وبعض التطبيقي هو أثر للخلل الشرعي وإشكالياته، وبعضه الآخر واقعي يتعلق بنظرتهم السياسية وخبراتهم وموازناتهم المصلحية.
فيما يتعلق الإشكالات الشرعية في التيارات القتالية، سواء العلمي منها أو العملي؛ فإنها ترجع في غالبها إلى الضعف الشرعي العام للمنظرين الأساسيين لتلك التيارات، فغالبهم الأعم يتسم بالسمات نفسها التي تتسم بها السلفية العلمية في اشتغالها العلمي. ضعف ظاهر في الاطلاع على المدونات الفقهية، وعدم قدرة على التعامل مع تلك المدونات بكفاءة، فضلا عن الفقر الواضح في الأدوات الواجبة المساعدة للتفقه، كالأصول واللغة والتاريخ، تلك الأدوات التي يجب أن تقوم بالفقيه الذي يمارس ذلك الاشتغال النظري، وبخاصة في مسائل يكون الكثير منها نوازل حادثة. ممارسة فقه ظاهري، ينطلق من فهمه الخاص والمتواضع للنصوص، ويعتبر ذلك تعظيمًا للدليل الشرعي، وفقهًا سلفيًّا، لا رأي فيه ولا محاباة فيه ولا تمييع، دون معرفة بكثير من النصوص، ولا فهم لأكثرها فهمًا صحيحًا يراعي الدلالات ومواطن الإجماع والنزاع، ودون تحقيق لكثير من مناطاتها وعللها وشرائطها، والتي لا يمكن التحصل عليها إلا من المدونات الفقهية الفنية المحضة في نهاية الأمر. إنه عُسر سلفي معتاد في التعاطي مع الفقه.
نعم يمكن أن ترجع تلك التيارات القتالية إلى المدونات الفقهية، ولكن بصورة انتقائية ومختزلة، وتأويلية، وفقيرة أيضا، وهذا كله من السمات المشتركة للاشتغال السلفي العلمي في الفقه، على مستوى خطاب الرموز والطبقات التي بعدها، بعيدًا عن مجالات الاشتغال الأكاديمي التي لا تقدر في غالبها على الانتماء – بصدق – للسلفية العلمية المعاصرة بصورة كاملة بعد انفتاح أفقها العلمي، فضلًا عن كونها عديمة التأثير في تشكيل هوية الخطاب السلفي وتوجيهه.
فلا ينتج ما تقدم من منهج تفقّه شائه إلا تبنّي أقوال شاذة، وقد تكون متوهمة من الأصل مخالفة للإجماع في أبواب القتال – كقتل غير المقاتلين من الكفار على سبيل المقابلة -، أو عدم تحقيق لمناطها الصحيح – كالخلط في مسائل الأمان والغدر -.
فإذا تأملت؛ وجدت أن أخطاء الاتجاهات القتالية السلفية المذكورة، هي بدرجة ما؛ نوع من الثمار العامة للاشتغال السلفي العلمي. فاجتمع فيها جهتان للإثمار: الجهة العامة متمثلة في طبيعة التفقه السلفي المعاصر، التي تنتج مع الاطراد فيها شذوذًا متطايرًا في كافة الاتجاهات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والجهة الخاصة المتمثلة بالمدونة الوهابية واختياراتها العلمية والتطبيقية، وقصور وتقصير السلفية العلمية في التعاطي النقدي معها بالعلم والعدل، أو التماهي والتبنّي لها، بصراحة، أو بتمويه وخجل.
فيتضافر الإشكال العلمي في التعامل مع بعض المسلمين الناجم من المدونة الوهابية، والإشكال العلمي في التعامل مع بعض الكفار الناجم من الاشتغال الفقهي الضعيف المتأثر بالسلفية العلمية، فضلًا عن التنويعات بينهما.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.