شعار قسم مدونات

المسافة صفر

blog-فيسبوك
نحن نعيش ضمن موجة إلكترونية هائجة دوماً ووسط دوّامة اجتماعيّة تحمِل معها أخبار الآخرين ونشارك فيها جميعاً بحالاتنا وصورنا إلى جانب تقلّبات أيامنا. والتفاعل الذي بات سمة هذه الأيام يضعنا أمام تضحيةٍ صعبة تكلّفنا تمزيقَ جزءٍ لا بأس به من خصوصيّتنا وتقديمِه قُرباناً لهذا التفاعل المطلوب.

 

إنني أتفهّم رغبَتنا بامتلاك صوت نُطلقه وننتظر الصدى وأتصالح مع هذا الدافع الجارف في أن نثبت لأنفسنا أولاً ومن ثم لمن حولنا بأن لدينا ما يُمكننا عرضه على الغير وما يزال بجُعبتنا حكاياتٌ تستحق أن تُروى وفرح نفخر به ومشاعر كثيرة يمكن أن تتحول لمنشور متناسق وجاذب. ما زال لدينا صخب يصّرح بأننا مازلنا على قيد الحياة ولكنني -ولسبب أعلمه- عاجزة تماماً عن استيعاب تشهيرنا بحزننا واستعراض هشاشتنا على الآخرين علناً ومن المسافة صفر.

 

للمشاعر حُرمة تفوق حُرمة البيوت. لا أدّعي بأن الحزن يجب أن يصيبنا بنوع مؤقت من البكم ولكن هذه المبالغة بالتعبير إلكترونياً والتي تُمكّن الآخرين من لمس كل مشاعرنا بأيديهم تضع علامة استفهام عملاقة وتصارحنا إلى أي حدّ نحن نحترم مشاعرنا.

كبُر أطفال الروضة الذين كانوا يفشون أسرار بيوتهم بألسنتهم الصغيرة ليتشاركوها وضمائرهم تؤنّبهم مع أقرب أصدقائهم. اليوم بتنا نطلق العنان لهذه الأسرار على حائط صفحاتنا ومع أشخاص لم يسبق لنا مقابلتهم حتى. فلا معلومة خاصة ولا شعور غير مسموح بأن يُذاع للجميع. إننا ننبي حالة جماهيرية كاملة على حساب خصوصيّة أيامنا.

 

فتاة أعرفها انفصلت عن خطيبها وفي ذات اللحظة ومن قلب المحكمة بأبوابها الحديدة وبعد إمضاء التوقيع الصعب وأخذ خطوة لا يمكن إنكار مدى إيلامها وبدل من أن تتوجّه لمراجعة حساباتها وتُضمِد قلبها وتأخذ نفساً عميقاً بمحرابها وتمنح نفسها الحق في فترة نقاهة حتى تستعد للمرحلة القادمة تُفضّل أن تنقل الحدث لمتابعيها وتنشر هذا الخبر كسبق صحفيّ هزيل؛ لتنهال عليها بعده تعليقات المواساة وتذكريها بالخير الذي تحمله المصائب وأقدار الله التي نجهلها وأن تنتظر العوض من الله.

 

هذا الجهل بما يجدر بنا حمايته من أنفسنا وكياننا وبالأخصّ من حزننا يجعلنا كل يوم عرضة للانتهاك. للمشاعر حُرمة تفوق حُرمة البيوت. لا أدّعي بأن الحزن يجب أن يصيبنا بنوع مؤقت من البكم ولكن هذه المبالغة بالتعبير إلكترونياً والتي تُمكّن الآخرين من لمس كل مشاعرنا بأيديهم تضع علامة استفهام عملاقة وتصارحنا إلى أي حدّ نحن نحترم مشاعرنا.
 

ولأن بعض المصائب أكبر وأصدق من أن تُروى فتجردّنا من مقدرتنا اللُغويَة ويغدو كل الكلامِ عبثاً لا جدوى منه. ولأنني أجد أنه من المرعب مشاركة هلوساتي أو مشاعري مع حشد. وأخشى أن يتجاوز الأمر فكرة المشاركة ونقل صورة افتراضيّة قريبة من حياتنا وحالاتنا ويصبح حاجة لإشباع رغبتنا بأن نكون محوراً وأن يكون للحزن الذي يعصِف بنا ضجيجاً يجتذب الآخرين ويلوّح لهم كطفلٍ أبله ووحيد بأنني هنا وعندي من الأحزان ما ينبغي الوقوف عنده. فنستغلّ أنفسنا بطريقة بشعة للوصول لرغبات أخرى.

 

أنا أدرك بأنه وكما أقدارنا؛ لم تُخلق صفحاتنا الشخصيّة لتحمل الفرح النهائي والليالي البيضاء دونما ألم. ولا أخاف الحزن ولا أنكره بل وأحترم خصوصيّته لهذا أنا ضدّ الكشف والمبالغة في إشهار ألمنا وكأنه حالة زكام. وعن نفسي أميل لمنحه قدسيّة تدفعني لاحتوائه لا فضحه أمام القاصي والداني.
 

أؤمن أنّ اختيارنا لمن يشاركنا حزننا شيئاً أشبه بالنبوّة؛ لا يُتاح لجميع خلق الله. نحن الحُرّاس الوحيدون لقلوبنا ولا قِلاع تحمي أرواحنا من التطفّل سوانا.

منحنا الله أنفاً واحداً يستقر في منتصف وجوهنا بسلام ولا رغبة لي بجمع أنوف أخرى ووضعها بيدي داخل شؤوني الخاصة. لا يخطر على بالي سوى عبارة بليغة قرأتها مرة وتُلخّص حالتنا وهي " أننا نحرّك السكين في الجُرح. " فلا نمنح ندوبنا وقتها لتتشافي بالزمن والصمت والدعاء بل نضعها تحت المجهر حتى يتفحّصها الباقون ويبهروننا بأحكامهم.

 

لا يهمني أن تعرف جميع الكائنات صراعاتي وما أتخطّاه من بؤس. ولا طاقة لي بالبوح بكلّ ما ترميني به الأيام من نِبال أو ما تتحمله أكتافي. لن يحلّ الآخرون مصائبنا إن ذكرناها بنداً بنداً ولن تُفهم أحزاننا دوماً حتى إن صغناها بشكلٍ لائق لجمهور. أؤمن أنّ اختيارنا لمن يشاركنا حزننا شيئاً أشبه بالنبوّة؛ لا يُتاح لجميع خلق الله. نحن الحُرّاس الوحيدون لقلوبنا ولا قِلاع تحمي أرواحنا من التطفّل سوانا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.