كنت قد تحدثت في تدوينتي الأولى عبر مدونات الجزيرة عن العلاقة بين الرواية والتاريخ، وقلت أن الرواية التاريخية مصدر إلهام للكتاب والقراء على السواء، فهي تمثل بالنسبة للكاتب فرصة حقيقية للهروب من الواقع والحاضر، واستغلال التاريخ لتمرير رسائل معينة وإسقاطات على الوضع الحالي لم يكن ليستطيع ربما الإشارة إليها بشكل مباشر، أضف إلى ذلك أن هامش الإبداع فيها أكبر وأوسع، كما أنها تقدم للقارئ رحلة زمانية ومكانية تنقله إلى أماكن وأزمنة أخرى ربما لم يكن يعلم عنها شيئا، وأعتقد بأن روايتنا لهذا اليوم من بين الأمثلة المميزة التي تتبنى هذا الطرح.
"هديل سيدة حرة" رواية للكاتب المغربي البشير الدامون، صدرت طبعتها الأولى عن المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء/بيروت) سنة 2015، وتتناول سيرة السيدة الحرة التي شغلت قصتها المؤرخين والباحثين المغاربة والأوروبيين، ثم جاء الأديب المغربي ليقدمها لنا في قالب روائي أدبي شائق مزج الأحداث التاريخية بالسرد الممتع واللغة المتميزة والرؤية الفلسفية العميقة.
| رغم غبار المعارك ومتاعب الحكم، لم تنس هديل أبدا أنها امرأة، مثلها مثل كل بني جنسها، تبحث عن الحب والأمان في كنف زوجها المنظري الذي عشقته بالفعل. |
ولكن، من هي السيدة الحرة؟
ولدت أواخر القرن الخامس عشر بمدينة شفشاون شمال المغرب، كان والدها علي بن موسى بن راشد أمير المدينة، ووالدتها مسيحية إسبانية تحولت إلى الإسلام، ما جعلها "تجمع بين جاذبية الشرق وحرارته، وجمال الغرب ورقته، وبين عذوبة رياح جبال الريف وقسوتها، وليونة أوراق زيتون تلال الأندلس وعطر أزهار جنائنها" كما وصفها الكاتب في روايته، ولأن الحرة كانت تتمتع بذكاء نادر ورجاحة عقل واضحة وسرعة بديهة ملفتة، فقد انعكس ذلك على شخصيتها القيادية الاستثنائية فيما بعد.
تزوجت الحرة من المنظري قائد تطوان وهي لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، في ما اعتبره كثيرون ارتباطا سياسيا تحالفت بموجبه شفشاون وتطوان لمواجهة الغارات البرتغالية التي تمكنت من احتلال بعض الثغور المغربية، فتمكنت الحرة من العثور على موطئ قدم في شؤون الحكم، كيف لا وقد أنابها زوجها للنظر في بعض الأمور المتعلقة بالإدارة، خاصة خلال فترات غيابه الطويلة، مستفيدا من شخصيتها القيادية، الذكية والقوية.
بعد وفاة المنظري متأثرا بجراحه في إحدى المعارك، تسلمت الحرة مقاليد الحكم في تطوان لبعض الوقت، وخاضت بنفسها مواجهات دامية لصد الهجمات الإسبانية والبرتغالية المتحرشة بشمال المغرب، قبل أن تأخذ الأمور منحى آخر باتخاذ السلطان أحمد الوطاسي قرارا بالزواج منها، فما الذي سيحدث بعد ذلك؟
أترك لكم مهمة البحث والاستزادة حول هذا الموضوع الغني بالدروس والعبر التاريخية الراسخة التي تتجاوز حدود المغرب الأقصى لتصل إلى كل الأقطار والأمصار الأخرى..
بالعودة إلى رواية هديل سيدة حرة، يمكن القول أن الدامون لم يقدم السيدة الحرة بأسلوب عادي كلاسيكي أو سرد تاريخي رتيب، بل بالعكس، فقد بدأ معالجته للشخصية بكتابة روايته بضمير المتكلم، لنرافق السيدة ونعيش معها أطوار حياتها الحافلة والمتقلبة، لكن من منظورها هي كإنسانة من لحم ودم، هي التي ولدت في وسط لم يعرف الهدوء والسلام يوما، فكانت بالفعل ابنة الحرب التي يكتوي بنيران سعيرها الجميع، عندما فرض اختلاف الدين والهوية وصراع الحكم ذلك، لكنها، رغم غبار المعارك ومتاعب الحكم، لم تنس أبدا أنها امرأة، مثلها مثل كل بني جنسها، تبحث عن الحب والأمان في كنف زوجها المنظري الذي عشقته بالفعل، قبل أن تتوه بين ذكراه وأنوثتها المتوقدة المتدفقة بعد وفاته، وتخضع للكينونة التي جسدتها تلك الحمامة التي طاردتها منذ بداية الأحداث حتى نهايتها.
ولم تتجاهل القارئ أيضا طوال فترة سردها لقصة حياتها، فمررت على لسانها عددا من الكلمات والعبارات العميقة التي تتطلب الكثير من التأني والتأمل في محاولة لفهمها، ما دامت تخاطب الإنسان أينما كان، محذرة إياه من الانغماس في شهوة القتل والدم المغلفة بغلاف الدين، والتي لم تكن لتفوق أبدا شهوة الإقبال على الحياة والحب النقي الصافي القادر على تجاوز كل الحدود الوهمية التي وضعها بنو البشر فيما بينهم، في تمازج متجانس جمع بين فلسفة الحياة والموت، وما بينهما من جمال وغربة وعشق يخترق حدود الزمان والمكان.
هي رواية مميزة، تستحق مكانها بين أفضل ما أنتجه الأدب التاريخي المغربي الحديث، فقد جمعت بين إفادتنا واطلاعنا على فترة تاريخية مهمة ربما لم نكن نعرف عنها شيئا من جهة، وبين عرض سيرة حاكمة مغربية استثنائية من جهة أخرى.. حاكمة كانت قبل كل شيء: إنسانة..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

