ولكن المشترك في كل هذه الظروف هو أن النتيجة تتشابه، فقد أضاعوا البوصلة. لا أتحدث هنا عن التطور الطبيعي ولا عن التغيير المحمود الذي ينتج عن مراجعات وإعادة تفكير، ولكن عن التغيير الذي يأخذنا بعيداً إلى أماكن ليست لنا، ويسحبنا شيئاً فشيئاً عن القيمة التي كنا نبحث عنها في هذه الحياة، الفرق الذي كنا ننوي إحداثه، أو ما يسمونه رسالة في كثير من الأحيان، رسالتنا في الحياة.
ليس هناك طريقة سحرية نستطيع بواسطتها أن نحافظ على سلامة نفوسنا الدائمة، ولا أن نحقق إخلاص النوايا وصدق الغايات مهما صغُرت أو كبُرت. |
رجل يعمل باحثاً في مركز علمي، يتطور به الأمر فيتلقى منحة بحثية، يسافر وينبهر وتأخذه الفجاءة، فيصبح عمله مجرد وسيلة حتى يستمر الانبهار، وتصبح أبحاثه هي الطارئ وحياة المتعة والتطلع إلى الجديد هي الأصل. امرأة اختارت أن تكون ربة منزل لتربي أبناءها، تعرفت على مجموعة من السيدات يمارسن هواية الحياكة، أعجب الجميع بأعمالها، أصبحت تنتج الكثير وتصور وتنشر، تحولت الهواية إلى الشاغل الأساسي، واختفى الأطفال في خلفية المشهد، تقدم لهم ما تبقى من وقتها. يتكرر الأمر كثيراً وفي صور لا حصر لها..
ما الذي حدث؟ لماذا انكسرت البوصلة؟ لماذا أصبحت الإبرة ترتعش غير قادرة على تحديد المسار؟
أنظر إلى نفسي، وكثيراً ما أجد أنني أسألها ذات السؤال، ما هو المهم؟ ما الذي ستقفين به يوم السؤال وتقولين لقد فعلت كل ما أستطيعه هنا؟ لا ليست الكلمات المتناثرة التي تكتبينها هنا وهناك، ولا بعض الصور التي تلتقطينها هنا وهناك، ليست أيضاً الكتب التي تقرأينها وتشطبينها من على لائحتك، ولا النقاشات الجانبية التي تخوضينها مع زملائك.
ما هو المهم؟ قبل أن يدخل على الخط هذا الكم من التشويش والتشتت بالناس، والكلمات المنمقة والصور البراقة والحياة الخارجة من الكتالوج، أين كانت البداية؟ ولا أبحث عن البداية هنا لأنني أريد أن ألتصق بها، أن أتحجر معها، ولكن حتى أذكّر نفسي، من أين بدأت وكيف وصلت إلى هنا، ثم هل ما وصلت إليه هو حقاً ما أريد أم أننا نتتبع النماذج التي تظهر أمامنا فننبهر ونسير دون تفكير ولا تدبر..
يقول أندريه جيد الكاتب الفرنسي في تأملاته، إن الناس كثيراً ما "تكون" مصادفة في سبيلها للظهور، ولكن علينا أن "نكون" لأننا نرى في هذه الكينونة الصّواب الأخلاقي والقيمة التي تحقق المطلوب، وليس لمجرد الوقوف أمام جماهير صغرت أم كبرت، عامة أو خاصة. أما نحن فكلنا نضع أقنعة كما رأى جبران خليل جبران، ليس هناك وجه حقيقي لأي منّا، قليلون همّ من يستطيعون أن يخلعوا أقنعتهم كلها أمام أنفسهم، لذلك فجبران رأى في سرقة تلك الأقنعة الحل الوحيد، سرقت فأخذ يركض خلفها كالمجانين يلعن سارقيها، ولكن ما أن لمست وجهه شمس النهار للمرة الأولى حتى بارك تلك السرقة، ومنذ ذلك الحين أصبح مجنوناً.. والجنون يا أصدقاء صفة كثيراً ما يطلقها الباحثون عن المخلصين على الأفراد المنشودين، كما قال فتح الله كولن: أريد حفنة من المجانين.
حسناً، هذا هو السؤال، فما هي الإجابة؟
لا أعرف، أصدقكم القول بأنني لا أعرف.. ليس هناك طريقة سحرية نستطيع بواسطتها أن نحافظ على سلامة نفوسنا الدائمة، ولا أن نحقق إخلاص النوايا وصدق الغايات مهما صغُرت أو كبُرت. لأننا ببساطة لا نعيش في معزل عن الناس، ولا عن كل تلك الملهيات التي تأخذنا يميناً ويساراً، ولأننا بشر ولسنا قدّيسين وإلا لما كان من حاجة إلى حساب وثواب وعقاب، أليس من أجل هذا نقول في كل صلاة: اهدنا الصراط المستقيم؟ أليس هذا هو محل الابتلاء وموضع الاختبار؟ من الذي يستطيع أن يجاهد نفسه في كل يوم وكل دقيقة حتى لا ينجرف وراء المتعة المحضة وإرضاء الشهوات بكل صورها؟ أكانت على هيئة ثياب جديدة، أو جهاز إلكتروني حديث، أو شهادة جامعية، أو رحلات سياحية، أو حتى وظيفة لسنا مؤهلين لها.. ولكننا نسعى وراء كل هذا ونترك وراءنا ما أردنا حقيقةً، ونترك الرضى والنور إلى طريق تملؤه متاهات السعيّ الذي لا يثمن ولا يغني من جوع.
نردد: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا. ولكن غالب الأمر أننا نظن ذلك القرب يتحقق فقط بترديد آيات من القرآن، أو زيادة عدد الركعات، أو ربما التوقف عن شيء من الصغائر.. ولا أعرف لماذا نفهم الأمر بهذه السلبية، لماذا لا نفكر أن الأمر يتحقق بالسعي إلى الله، ليس من خلال الأفعال التعبدية حصراً ولكن بأن نسير الحياة كلها على بوصلته؟ الحق، الخير، الصلاح والإصلاح.. ما أعنيه أن حيادنا عن الطريق لا ينبغي أن يكون الأصل بل هو الاستثناء الذي نلغيه كل يوم وفي كل لحظة نتخذ قراراً بأن لا ننجرف، ولا نترك لكل شيء – إلا حقيقتنا- أن يحدد مصيرنا. علينا أن نتصارح مع أنفسنا كل يوم وكل شهر وكل سنة، أن نتوقف وننظر إلى الخلف، ننظر إلى حيث بدأنا ونتتبع الطريق حتى موضعنا الآن.
لا تتركوا لغيركم أن يحدد كيف تكون حياتكم، لا تستعبدوها بالانسياق والاستهلاك، اسألوا أنفسكم كل يوم: هل حقاً أريد أن أتعلم هذه المهارة؟ هل حقاً أريد أن أكون هذا الشيء أو ذاك؟ |
كان عندي أستاذ ممن يُنظر إليهم فتُعرف حصيلتهم من العلم والحكمة، كلما سألته عن أمر يخص التخصص أو خارجه وكان يستصغره أشاح بيده وصرف النظر عنه بغمضة من عينه، فأفهم منه أنه لا يراه جديراً بالنقاش، أذكر أنه أعطاني هذا التعبير عندما سألته عن رواية "الخيميائي" لباولو كويلو. كثيراً ما أتمنى لو أنني أتحصل مبكراً على هذه القدرة على الإشاحة بوجهي بعيداً عن كل ما لا يضير ولا يفيد، عن كل ما لا يضيف لغايتي شيئاً ولا ينقض منها. أن أشيح بعقلي عن كل تافهة، وبنفسي عن كل صغيرة، أن أتخلى تماماً عن محاولة إثبات نفسي لأيٍّ كان، وأن يكون دافعي الأوحد هو الإخلاص.
يقولون بالإنجليزية: fake it till you make it ، لعل هذه أصبحت آفتنا الكبرى، لأنك حتى تتظاهر أو تقلد فإن غالباً ستنظر إلى النموذج الموجود أمامك، لن تكون أنت مصدر الفعل، بل مجرد حامل له، أداة عرض، بعضنا يتقن التقليد إلى حد يجعل الناس من حوله يظنونه حقيقة، والبعض الآخر يظل عالقاً في منطقة التقليد الرديء. وهكذا أصبحنا جميعاً نسخاً مكررة من كل شيء، لا جديد تحت الشمس، ومن أين يأتي الجديد وكل ما يخرج منّا لا يمر بأرواحنا، لا يصدر عن دواخلنا.. ليس نابعاً من دوافع أصيلة فينا ولا يتبع ذلك الصراط.
بعيداً عن الفلسفة يا أصدقاء، لا تتركوا لغيركم أن يحدد كيف تكون حياتكم، طوعاً أو إجباراً، لا تستعبدوها بالانسياق والاستهلاك، اسألوا أنفسكم كل يوم: هل حقاً أريد أن أقرأ هذا الكتاب؟ هل حقاً أريد أن أتعلم هذه المهارة؟ هل حقاً أريد أن أكون هذا الشيء أو ذاك؟ هل هذه هي خلاصة حياتي وزبدتها؟ وأرجوكم أن لا تعيشوا أحلاماً ليست لكم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.