طلبَ منّي صديق مرةً البسملة لبدْأ معالم أي خطوة قادمة، للوهلة الأولى وأول مرّة يغمرني الصّمتُ جوابا، وراحت بي الذاكرة إلى عبارةً نفيسة أوردها الكاتب العُمراني أحمد خيري العُمري في كتابه "عالم ممكن": "الحرف -في لسان العرب- الطرف والشفير والحد. أي إنه حافة قصية من موضع ما، وهذا يعني أن التحريف عندما يكون عن كلمة ما، فإنه يعني دفعها إلى أبعد ما يمكن عن مركزها، عن معناها الأصلي الكامن في وسطها. إنه يعني دفعها إلى حافتها لدرجة إخراجها من معناها، دون إخراجها من لفظها."
فعدتُ إلى موضِع البداية، محادِثاً ذاتي، إنْ كان الحَرْفُ هو القالب الذي فيه يُخرج المعنى وصورته، ومنْه يُخشى التحريف، فمن أين يأتي المعنى؟ غبْتُ عميقاً، لأجدَ إجابة تقول أن الروحانية في الأصل حالةُ المعنى الذي نعيشه أو نصِلُ إليه. واختلاط الروحانية بالتديّن هو أمرٌ وارد شرقا وغربا، إلا أني اكتشفت أن الروحانية متجذرة في الانْسان، وسبيله للكونية، ثم جاءت الأديان لتُعزّز اتصاله بالكون، فيُصبح في حالة الاكتمال والواحدية. إذن فُكل طقسٍ ديني أو لا ديني، لا يقودني إلى المعنى والاتصال، فهذا بسبب المعنى الذي غاب عن الطّقس الذي نؤديه.
لقد بنيتُ ما بيني وبين البسملة على قانون الأخذ والعطاء لا قانون الفهْم والامتداد، وأصلُ الذّكر الحضور، والحُضور هو استيقاظُ الحواس وتفاعلها مع اللحظة وما فيها. |
عرفْتُ الآن من أين يأتي المعنى، يتشكل المعنى من التجربة! إذاً فكيف لي أن أُدرِكَ أن معنايَ الذي توصلتُ إليه هو الأصلُ والمركز أو لنقل الحقيقة؟ فوجدتُ مولانا الرومي يُردد: "كانت الحقيقة مرآةً بيد الله.. سقطت فتحطمت.. كل شخص أخذ قطعة ونظر إليها.. فظنَّ أنها الحقيقة كامله." زادتني عبارتُه حيرة، وقربت خطوة استيعابي. إذا كانت الحقيقة قد تبعثرت في الأرض، وصارت أجزاؤها في كل مكان، فذاك يدل على أنّ الحقيقة الكاملة هي التكامل مع بقية الأطراف ووضع القطع المفقودة مع بعضها البعض.
جميل، ولكن لم تكفني هذه الإجابة! كيف أدركُ صواب معنايْ، لأطمئن؟ فغبتُ عميقاً، حتى أخبرتني ذاتي بسر: الذي لامَس قلْبك، وأنقى حواسّك، وأبلغَ فعلك، هو ما تتكئ عليْه. إذن فكل تجربةٍ تقودك إلى معنى، وأصل أي معنى، هو استجابة حواسّك، وتفاعلها وتفاعلك مع الحياة اليومية، والأحداث الكونية.
لأوّل مرةٍ أعجزُ عن البَسْملة، جهْلاً بمعناها، معناياَ الخاص فيها، نعم دعني أدلي باعترافٍ آخر، لقد كنْتُ طيلة ما مضى أنطق بها عادةً وتِكْرارا، طقساً لتحلّ لي البرَكة! آخ، لقد بنيتُ ما بيني وبين البسملة على قانون الأخذ والعطاء لا قانون الفهْم والامتداد، وأصلُ الذّكر الحضور، والحُضور هو استيقاظُ الحواس وتفاعلها مع اللحظة وما فيها. يالني من أحمق، كل ذكْرٍ وفعْل خلا من حضور، فقد خلا من قصده ومعناه! تعرف يا صديقي أشعرُ الآن بنشوةٍ لا بأس بها، اعترافاً بجهلي، وجهالتي. وأظنّها ستكون بسملتي التي أبدأ بها سياحتي الوجدية أو أي خطوةٍ قلبيّة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.