شعار قسم مدونات

صديقي "الداعشي"

BLOGS- ليبيا
بداية التعرف عليه تعود إلى نحو ثلاثين عاما، يومها كانت نظراتي تراقبه من بعيد، حيث كان على صداقة مع بعض من أعرفهم أو تجمعني بهم قاعات الدراسة. لفتني إليه اهتمامه بنفسه وأناقته ولغة جسده بل وحتى مشيته التي يبدو فيها بعض الخيلاء، وهو من الكِبْر بريء. لكن صار "الداعشي" صديقا مقربا وأخا عزيزا في سنوات الغربة حيث أصبحنا جيراننا، فكان نعم الجار.

"العُزاب" في الغربة يعني لهم الكثير الاهتمام من قبل الجيران والأصحاب المتزوجون خاصة وجبات الطعام الشهية، وقد كان صديقي كريما ودودا لدرجة جعلتني أذكر ذلك له في كل مناسبة.

يطل علينا شهر رمضان الكريم كل عام، ويصر صديقي أن يكون الإفطار عنده كل يوم، وبعد معارضة شديدة مني وجدال طويل بيننا يرضى هو على مضض أن أخصص يوما للإفطار كل أسبوع، عادة يكون السبت حيث العطلة الاسبوعية.

وصل صديقي "الداعشي" إلى بريطانيا في بعثة دراسية عام 1996، كانت باكورة سنوات طوال من التعلم والتدريب ثم العمل في مجال مهم. تحصل على درجة الماجستير، وعرضت عليه الشركة التي نفذ مشروع تخرجه على سلسلة نشاطها العمل معها وما هي إلا سنوات من الجد والاجتهاد حتى صار مديرا لإحدى إداراتها، بل وصار خبيرا متميزا في مجاله.

تمت مصادرة بيت صديقي هذا بتهمة الانتماء إلى تنظيم الدولة، وهو الذي بطبعه يكره العنف، ويشمئز من التطرف، بل وينفر من أي شخص فيه نزعة متشددة، فكيف يكون هو داعشيا؟!

يقضي وقته، كما كنت أتابع عن قرب، بين عمله المضمني، وأسرته. فالأسرة في الاغتراب تحتاج إلى رعاية أكبر وأهتمام أكثر، وقد وفقه الله ووفق زوجته الكريمة أن ربيا أولادهم أفضل تربية في ظل تحديات كبيرة وخطيرة يعلمها كل من كان لهم أولاد في الغرب.

هكذا هو حال صديقي "الداعشي" منذ عشرون سنة قضاها في الغربة، العلم والعمل والتميز فيهما بمثابرة واجتهاد قلما تجدهما في من حولك، واهتمام بالأسرة، بالإضافة إلى أوقات تسمح بها الظروف الضاغطة يخصصها للتواصل الاجتماعي والمشاركة في بعض المناشط العامة الهادفة.

صديقي هذا، ككل ليبي اضطرته الظروف أن يعيش في الغرب، معلق القلب بليبيا وببنغازي، ويعتبر أنه مهما طالت الغربة فإن المستقر والمستودع في بنغازي، فوق وتحت ترابها، لذلك كان يخصص ما يفيض من عرق جبينه لتأمين الاستقرار هناك، فكان أن وفر مبلغا لشراء قطعة أرض منذ نحو عشرة أعوام، وشرع في بناء مسكن عليها، يدخر المبلغ تلو المبلغ ويرسله للمقاول لينجز مرحلة إضافية في البناء، إلى أن يسر الله وتحقق الحلم، وأصبح لصديقي "فيلا" دور أرضي على أرض مساحتها 500 متر مربع. كان هذا قبل سنتين مضت تقريبا، وبقيت رتوش صغيرة هي من الجماليات ولن تعيق الانتقال والاقامة في العش الجديد.

لكن أقدار الله شاءت شيئا آخر، فقد تم رُمي صديقي بتهمة الإرهاب، وهذه التهمة في بنغازي كفيلة بأن تجردك من كل شئ، لتجد نفسك قد خسرت حلما أنفقت الغالي والنفيس وسنوات طوال من عمرك لتحقيقه، فيذهب أدراج الرياح أمام ناظريك، وليس لك إلا الحسرة والألم.

تمت مصادرة بيت صديقي هذا بتهمة الانتماء إلى تنظيم الدولة، وهو الذي بطبعه يكره العنف، ويشمئز من التطرف، بل وينفر من أي شخص فيه نزعة متشددة، فكيف يكون هو داعشيا؟! استولت مجموعة تنتسب إلى "الجيش" على البيت، وأقام فيه شخص يدور بين الجيران مقسما أن البيت لداعشي وأن الإقامة فيه حلال ولا شائبة فيها، والاتهام بـ "الدعوشة" صارت ذريعة للاستيلاء على أرزاق الناس، فالرجل غائب عن بلده منذ عشرون عاما، وأُشهد الله أنه بعيد عن السياسة وعما يدور في ليبيا وغارق في هموم تربية أبنائه وطلبه للمعالي في تخصصه.

أليس هذا الظلم الذي لا فلاح معه، والبغي الذي يلحقه العقاب من المولى عز وجل عاجلا أم آجلا، وينطبق ذلك على من أمر بالقرصنة ومن مارسها ومن علم بها وسكت عنها.

أحتسب جهد وعرق وأحلام صديقي عند الله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله محرم بين عباده وتوعد الظلمة بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ووعده نافذ وعقابه واقع إلا أن يرتدعوا وترد المظالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.