إن الأسباب تعددت والمقصود واحد "الأم"، ما دفعني لكتابة هاته الكلمات هو ما أعايشه وأراه في محيطي وما أسمع عنه في المحيطات البعيدة عني، نفس النسق، الشيء الذي يجعلني أقف دائما لوهلة من الزمن أطرح جملة من الأسئلة بيني وبين نفسي، أين يوجد المشكل؟
بين هذا الحب اللامشروط من الأم والحب الذي يكون من طرفك فرقٌ كبير، ليس تقليلا منه وإنما قناعة تامة قادمة من مدى صدق حبك تجاهه في تقبلك للمرتبة الثانية. |
لماذا لا ترضى الكثيرات من جنسي في أن تكونن في المرتبة التي تلي مرتبة الأم في حياة الشخص الذي ارتبطن به بميثاق غليظ سطّر في بدايته ما عليهن وأين مكانهن بالضبط؟ لماذا يطغى حب التملك والتحكم على أغلبية فتيات اليوم دون أن أنسى أنّي واحدة منهن مع اختلاف في الأبجديات والمفاهيم عند كل واحدة، على حساب الحب الأول للشريك "أمه"؟
محاولة إيجاد أجوبة مقنعة في هذا الصدد مهمة معقدة نوعا ما، كلّ واحدة ستأخذ الأمر من وجهة نظرها، هناك من سيوافقن، هناك من سيعارضن، لكل أنثى رؤيتها وطريقتها في تحليل ومناقشة الموضوع. لكن الفكرة التي يجب أن نتفق فيها جميعا وبكل واقعية مطلقة يا عزيزتي..
أنك لن تكوني بمثابة من وهبته الحياة، من حملته وهنا على وهن، قاست من تقلبات الوحام ومن صعوبته على حالتها النفسية والصحية، تحملت تقلبات الحمل بمشقة لمدة تسعة أشهر.. من بدأ حبها له من أول صورة ايكو وهو وسط أحشائها، من كبر حبها له عند أول ركلة له لبطنها المنتفخ، معلنا بداية التواصل بينهما، من بكت من شدة الفرح وهي غير مصدقة أن قطعة منها تتحرك داخلها وتحس بها، من لم تنم الليل بطوله وهي تنتظر منه المحاولة مجددا..
لن تكوني مكان من تلذذت بكل ذلك العناء، من تعب وسهر وآلم ووقع عليها كالماء البارد في يوم حارّ جدًا، من قاست عند الولادة ما لا يطيقه الرجال الشداد، من عاشت لحظات تشبه الاحتضار، كالذي يحترق جسده وهو حي، كالذي انكسرت ضلوعه كلها على حين غرة، كالذي لا خيار له سوى الصراخ من هول وشدة ما يشعر به من وجع في سبيل تلقي حقنة مهدئ تنسيه كل شيء..
إنه لمن العدل أن تقضي حياتك في الحفاظ على مكانك ومرتبتك الثانية في حياته على أن تحاولي أن تكوني الاولى لأن وبكل المنطقية الموجودة في هذا العالم، لن تكوني بمثابة أمه. |
لن تكوني قبل من حملته بين أيديها المفرغتين من الطاقة، بكل جهدها لتلتقي عينيها بعينيه المغمضتين وتنسى على الفور كالذي تعرض لمحو للذاكرة وكأنها ما عاشت الذي عاشته، من امتزجت صرختها بصرخته وهو يستقبل الدنيا، عشقته لأنه منها، من صلبها، كبر واكتمل مما تغدت وشربت منه، في كل تنهيدة مغص أقسمت على نفسها أن تلتحم روحها بروحه مدى الحياة، تلك الروح التي منها في جسد آخر، لتشغل ليلها ونهارها ترعاه وتطعمه وتتعب لراحته وتبكي لألمه، وتميط الأذى عنه وهي راضية، وتصبر على تربيته سنينا طوالا في رحمة وشفقة لا نظير لهما. من يبقى طفلا في عينيها مهما بلغ من السنين، من حاجياته اليومية أولوياتها الأولى والأخيرة، من راحته أعلى مقاصدها..
وما بين هذا الحب اللامشروط والحب الذي يكون من طرفك فرقٌ كبير، ليس تقليلا منه وإنما قناعة تامة قادمة من مدى صدق حبك تجاهه في تقبلك للمرتبة الثانية، وهذا ليس بالضعف أو الفشل كما تعتقده الكثيرات، تحكمن على أنفسهن وتخضعنها لمبدأ الأنانية بدون نضج ومعرفة عميقة للاختيار الذي هن أمامه بل حب في حد ذاته.
ثم إني ما أرضى نهاية إلا كهذه، على أبيات الشاعر العراقي الكبير "معروف الرصافي"، حيث قال:
هي الأخلاق تنبثُ كالنبات إذا سقيت بماء المكرمات
تقوم إذا تعهدها المُربى على ساق الفضيلة مثمرات
وتسمو للمكارم باتساق كما اتسقت أنابيبُ القناة
وتنعش من صميم المجد رُوحا بأزهار لها متواضعات
ولم أر للخلائق من محلّ يهذّبها كحضن الأمهات
فحضن الأمّ مدرسة تسامت بتربية البنين أو البنات
وأخلاق الوليد تقاس حسنا ًبأخلاق النساء الوالدات
وليس ربيب عالية المزايا كمثل ربيب سافلة الصفات
وليس النبت ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في الفلاة
فيا صدر الفتاة رحبت صدراً فأنت مقرُّ أسنى العاطفات
نراك إذا ضممت الطفل لوحا يفوق جميع الواح الحياة
إذا استند الوليد عليك لاحت تصاوير الحنان مصورات
لأخلاق الصبي بكُّ انعكاس كما انعكس الخيالُ على المرآة.
إنه لمن العدل أن تقضي حياتك في الحفاظ على مكانك ومرتبتك الثانية في حياته على أن تحاولي أن تكوني الاولى لأن وبكل المنطقية الموجودة في هذا العالم، لن تكوني بمثابة أمه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.