تدخل إلى كلية الصحافة في اليوم الأول من مشوار دراستك الجامعية فيخيل إليك أنك بدأت السير على بساط النجومية الأحمر، تتعرّف إلى زملائك وكأنك تتعرّف إلى ألمع نجوم ميدان الإعلام إذ تجد من يتقن اللغة العربية فيتوقف بك ذهنك لبرهة فتتصوره مكان عبد الرحمن الراشد وآخر يجيد المزاح فتشاهد أمامك صورة باسم يوسف والآخر يتقن إحدى اللغات الأجنبية فيرسم في مخيلتك شعار شبكة سي إن إن. تحبس أنفاسك ثم تطلق العنان وترفع شعار التميز الدراسي وأنت تقنع نفسك بالتفوق على زملائك ويشيع أن تتخذ أي صحفي مثالا أعلى لك حتى وإن لم تكن مضطلعا على حياته ومسيرته.
تجلس في أول يوم دراسي في الطاولة الأولى وتحاول مناقشة الأستاذ حتى على أقل الأمور أهمية لعلّك تظفر برمزية خاصة داخل فصلك ثم وأنت جالس في مقعدك تتخيل نفسك في مقعد جمال ريان في قناة الجزيرة أو أنك في مكان خديجة بن قنة إن كنت من الجنس اللطيف وقد ترفض حتى قناة الجزيرة وتقول أن خطها التحريري لا يتوافق مع أفكارك السياسية وانتمائك الإيديولوجي فتحول حلمك إلى سي إن إن أو البي بي سي أو حتى تختار أنت الوظيفة التي ستضطلع بها يوم تخرجك، ثم يحدث أن تتذكر الموضوعية فتقول سأكون كذلك بعد أربع سنوات من تخرجي أو سأكون حينها مقدّم برنامج سياسي تفوق نسبة مشاهدته البرامج المقدمة في أيامنا هذه.
اترك ما قد تتحصل عليه من امتيازات نظرا لشهرتك التي قد تتحصل عليها وانظر إلى واقعك جليّا وحاول أن تغير من نفسك ولو الشيء القليل قبل أن يتجاوزك الزمن وتجد نفسك خارج السياق. |
جمال ريان، ذلك الذي حلمت بالجلوس في مكانه، قضى لوحده أربعة عقود حتى جلس على ذلك المقعد الذي تمني نفسك بالجلوس عليه يوم تخرجك، أي أنه جلس هناك بعد عشرين سنة من يوم تخرجه. في حين قضى محمد حسنين هيكل ثلاثة عقود حتى سجّل اسمه على ظهر جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 31 جويلية/يوليو 1957.
يحدث أيضا أن تنشأ لنفسك صفحة رسمية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك أو أن تشتري آلة تصوير متواضعة وتنشأ صفحة فلان فوتوغرافي وتشرع في نشر محاولات خاصة بك في الكتابة والتصوير وقد لا تنام ليلة فرحا بأعداد متابعيك. فقط اعلم يا زميلي أو زميلتي أن كتاباتك ستصبح مدوية في يوم ما وصورك سترعب من ترعب في يوم ما أيضا لكن الأهم أنه ليس الآن.
وأنت تدرس الصحافة مع جرّ حرف الصاد فالصحافة اسم مهنة.. هذا ما علّمك إياه أستاذ اللغة العربية.. يحدث أن يلتقط لك زميلك في الدراسة صورة احترافية وتغير صورك بصفة دورية ويشيع هنا أن ترفق الصور بأقوال لمفكرين تاريخيين حتى وإن لم تكن تلك الأقوال تتناسب مع واقعك اليومي. همّك الوحيد أن تشير في صورك إلى أنك عليم بالتاريخ والجغرافيا والفلسفة والفكر وعلم الاجتماع وحتى الثقافة والرياضة أحيانا وتطلب من نفس زميلك أن يلتقط لك صور وأنت تتناول الصحف أو الكتب أو تفكر في قضايا الأمة أو أن تنزل صورك وأنت في الكلية وتكتب عليها لمتابعيك هنا كلية الصحافة أو هنا معهد الصحافة وعلوم الإخبار كما تسمى كلية الصحافة في تونس.
زميلي، صورك ستغير حسابات غيرك وتدخل الارتباك على البعض الآخر في يوم ما لكن الأهم أنه ليس الآن:
يشيع أن تلتقط صورة رفقة إحدى الإعلاميين أو الصحفيين المشهورين في بلدك او أحد الشخصيات الهامة على هامش ندوة صحفية حضرتها صحبة زملائك بشق الأنفس ثم تعلّق على الصورة مع زميلي فلان و تعبّر عن تضامنك مع صحفي تعرّض لمضايقة وتكتب على التويتر كل التضامن مع زميلي فلان وعمر وزيد وتتهم آخر بأنه دخيل عن قطاع الصحافة والإعلام وأنت لم تسجل إلى حد اللحظة حضورك لمدة أسبوع واحد في كلية الصحافة.
زميلي، مواقفك التضامنية والمبدئية في بعض الأحيان جميلة جدا لكنها ستزداد جمالا في يوم ما لكن الأهم أنه ليس الآن:
يحدث أن تتبنى القضايا الآنية الحساسة وتستهلكها وتجند حساباتك على مواقع التواصل الإجتماعي لخدمة أفكارك وقناعاتك الشخصية وتجعل تلك الحسابات منبرا للقضايا العادلة وعلى رأسهم القضية الفلسطينية وتقدّم نفسك على أساس أنك المدافع الأول عن حقوق الفقراء والمحتاجين فكيف ستكون ردة فعلك حين يقول لك أحد المعنيين بالقضايا المذكورة "جب لي حقي" أو أن تقرأ تعليقا لأحد الصحفيين قام بفسخه قبل أن يضغط على زر التعليق خوفا عليك من رجة نفسية قد تسبب لك صدمة حضارية تحيدك عن الطريق الذي رسمته لنفسك وسرت فيه.
من حسن حضك زميلي أنك عربي، فالمصائب لا تكاد تنتهي بل تزداد كل يوم حدة وأنت من يوم إلى يوم تبهرنا بتحاليلك التي لم نفهمها ولم نستوعبها إلى الآن، قد يكون الخلل منا. يعني ذلك أن جمهورك سيكون أكثر عرضة لتصديقك حتى وإن كانت كذبتك واضحة، ستكون دراستك الجامعية بمثابة تذكرة مصداقية، ممّا سيتيح لك لاحقاً فرصة التفلسف في ما لا يعنيك، التحليل السياسي اللامنطقي، استهجان واستنكار أي أحداث سياسية في المنطقة وإعطاء رأيك فيما لا يفيد. كل هذا تحت غطاء لقب "الإعلامي"؛ بل وبتصفيق وتشجيع من حولك. تخيّل نفسك مواطنا أمريكيا وأنت بهذا الحلم وبهذه التحاليل والأهواء، وبالحديث عن أمريكا أنا على يقين بأن تعليقاتك بخصوص الانتخابات الرئاسية بالولايات الأمريكية المتحدة لم تزدنا إلا إبهارا.
كل هذا وأنت لا زلت لا ترحمنا بوابل من صور تجمعك مع كل شيء له علاقة بميدان الصحافة، حتى قلمك الشخصي قد يصبح جزء من صورك.
تمر الأيام لينقضي شهرك الأول في كلية الصحافة وأنت على هذه الحال، قبل أن تتعلّم تقنيات الكتابة الصحفية فيتحول حساب الفيسبوك الخاص بك إلى منبر إخباري يقدم لنا الأخبار في كل لحظة. هنا يجب أن نشكرك على مجهودك لكن رجاء لا تتحول إلى وكالة أنباء يا زميلي فقط ارحمنا.
بمرور الزمن تكتشف أن الطريق الذي رسمته لنفسك مجرد حلم وردي يخلو تماما من الموضوعية التي هي من أخلاقيات العمل الصحفي يا زميلي. |
فجأة، تصيبك لعنة الكتب، فتصبح دائم البحث عن عناوين قررت البحث عنها بمجرد أنك استمعت لشخص يتحدث عنها بالرغم من أن هذه الكتب لن تقدم لك شيء. طبعا لا تنسى أن تذكرنا دوما بعناوين الكتب التي قرأتها وصورها على موقع الانستغرام.
زميلي، دعنا لا ننسى أننا ندرس الإعلام لهدف ولرسالة إنسانية خالدة أن الصحفي يعيش من أجل قضايا عادلة وليس قضية واحدة. اترك ما قد تتحصل عليه من امتيازات نظرا لشهرتك التي قد تتحصل عليها في محيطك الاجتماعي خلال وقت قصير وانظر إلى واقعك جليّا وحاول أن تغير من نفسك ولو الشيء القليل قبل أن يتجاوزك الزمن وتجد نفسك خارج السياق.
آسف يا زميلي، هذه رجة قد تصلح ميداننا وقد تغيرنا فنحن نتخرج جميعا قالب واحد. كل هذا في سبيل كسر القاعدة وتجاوز المعهود.
أواصل الرواية إن صح وصفها بذلك فأقول، بمرور الزمن تكتشف أن الطريق الذي رسمته لنفسك مجرد حلم وردي يخلو تماما من الموضوعية التي هي من أخلاقيات العمل الصحفي يا زميلي. تستيقظ من حلمك بسبب تعري رجليك من تحت غطاء الصحافة لتجدهما باردتين فتتيقن بأن حلمك قد وافته المنية.. الله أكبر الله أكبر إنا لله وإنا إليه راجعون.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.