لن أعيش في جلباب حزبي

blogs - journalist

سألتُه "من علّمكَ هذا؟" قال "علمني إياه حزبي العتيد!"؛ ثم توصلتُ إلى قناعةٍ بأن بعض الصحفيين يعلمُون الحقيقةَ كاملةً؛ لكنهم يُعرِّفُون بعضها ويُعرضُون عن بعضها الآخر، ترضيةً لمنطقِ أحزابهم وولاءً لعصبتيها المقيتة، وحباً في أن يتقلدوا مناصبَ أعلى، فتبوأ المناصب في عُرفِ الأحزاب، يستندُ إلى قوانين كثيرة، أولها "السمع والطاعة" حتى وإن كانتْ تلك الطاعة تجلبُ الكوارث، وتُغذي الشرَ والنفاق في كل نفسٍ طماعة!
 

لا يتوبُ الصحفي المُنظم، ولا أقصدُ في كلمة "المنظم" أنه نظامي ولا يُحب الفوضى، بل المنظم في صفوف تنظيمه عن ارتكابِ ذنوبٍ لا تُغتفر بحقِ المهنيةِ والشفافية؛ فالتعتيمُ ديدنه على القضايا التي يعيثُ فيها حزبه فساداً وخراباً، والتشهيرُ في دمه إن كان من يقترفُ الخطأ بحقِ بلده هو خصمه اللدود، فهو يسيرُ على منطقِ "استروا يستركم الله"، أو على قاعدةِ "إذا بُليتُم فاستتروا" وربما يتمادى في الدفاع عن أخطاء تنظيمه بقوله "من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة"؛ ولا يتوقف الأمر عند هنا بل يتهمُ من يفضحون أخطاءه بأنهم ناقدون حاقدون؛ يتعامون عن الإيجابيات ويركزون على السلبيات، ورغم أنه قد يكونُ محقًا في تعليقه هذا؛ إلا أنه لا يحقُ له ولا لغيره أن يكمم أفواه المنتقدين حتى وإن كان الخطأ بسيط، ولا يُذكر، فأبجديات العدالةِ والشفافية أن يتقبل كل الآراء؛ ليعكس أولاً أنه حضاري وأنه قوي وأنه واثق من نفسه ومن حزبه الذي ينتمي له!
 

الصحفي المُنّظم هو الذي اشتهرَ بعمله المُنّظم الخالي من التنظيرِ السلبي، الذي اجتهدَ فدفعَ الجميع لاحترامِ فكره وآرائه وأعماله، فالتفَ حوله شعبه حتى أولئك الذين يحملون فكراً سياسياً مغايراً لفكره.

نعودُ إلى المفارقة الثانية، وهي إن كان الجرم يخصُ زميلاً له من تنظيمٍ آخر، لا يكفُ عن فضحه، لعنه، سبه، شتمه، يُكبرُ المجهرَ على الخطأ وإن كان بحجمِ نملةٍ تسيرُ بين الأفيال، وإن كان بحجمِ نقطةٍ في صحراء جرداء.
 

هؤلاء المُنظمون أو المتحزبون بحاجةٍ إلى معلمٍ ابن معلِم ليُعلمهم كيفَ يُرتبوا أوراقهم وموادهم الصحفية، فلا ضيرَ أن يخضعوا جميعاً إلى نقطةِ نظامٍ وعدلٍ، على اعتبارِ أنهم جميعاً يقولون بأن مصلحة الوطنِ أهم من مصلحةِ الحزب، فالحزبية العدو الأول للمهنية، مع قناعتي بأنه لا مهنية مائة في المائة، ولا شفافية مثالية، فنحن في زمنٍ يصطدمُ كثيرًا في المبادئ، خاصةً وأن السياسة لا يُوجد فيها عدو أو صديق دائم، لكن ذلك لا يعفي الصحفيين من تحمل أعباء مهنتهم، ليحافظوا على طهرها، فيلفظوا المتسلقين، الذين لا هَمَ لهم ولا دين سوى أن يستعرضوا بطولاتهم مع أحزابهم، مع العلم أنني لستُ ضد تسليط الضوء على أنشطة الأحزاب وإنجازاتها، بشرط آلا يكون هذا الهدف الأسمى للعاملين من الصحفيين الحزبيين.
 

اللبيبُ والذكي فيما يتعلق بالصحفي المُنّظم هو الذي اشتهرَ بعمله المُنّظم الخالي من التنظيرِ السلبي، ذلك الصحفي الذي اجتهدَ فدفعَ الجميع لاحترامِ فكره وآرائه وأعماله، فالتفَ حوله أبناء شعبه حتى أولئك الذين يحملون فكرًا سياسياً مغايراً لفكره، فدشنّ نموذجاً للصحفي الوطني الجامع للجميع، المانع للفرقةِ، والرافض لكل أساليبِ الفوضى في نقل الرسالة الإعلامية.
 

أن نحترم الآخرين، أن نتقبلهم، أن نعرفَ كيفَ نكون رحماء بأنفسنا ورحماء بمن نختلف معهم، أن نرحمهم حتى عندما تنحرفُ بوصلتهم؛ فلا أحد معصوم من الخطأ، أن نجسدَ وصية النبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، وأن نطبق فعلاً لا قولا "رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي"؛ هذا ما يحتاجه الصحفيون المُنظمون إلا من رحم ربي منهم، فأغلبُ البلاد التي تعجُ بالصراعات والانقسامات ينقصها أدب الاختلاف وترجمة مهاراته في الوسائل الإعلامية، فلا ينقصُهم الدورات التدريبية في التحرير والتقرير والتحقيق، بل في إظهار الحقيقة بوجهها الكامل، حتى لو كانتْ تلك الحقيقة مؤذية في بعضِ الأحيان، فأين نحن من "قل الحق ولو على نفسك".
 

الواثق من نفسه من جمهور الإعلاميين هو من يراعي حق ربه وشعبه ونفسه، هو من اشتهر بالصدق، فأصبح صادقًا صدوقاً، بعينِ جماهيره قبل عين حزبه، فحظي بتقدير الإثنين، فأنصع وأبهى احترامٍ للنفسِ الإعلامية هو آلا تقبل بأن تكون إمعة لأحد، وآلا تسير في ذيل أحد، بل أن تسير ضمن طريق المتاعب الطويل، الذي يقضي على سالكيه وعابريه أن يتقصوا الحقائق ويبحثوا عنها، فهل يبقى البعضُ أسرى لأحزابهم؟ متى يفهموا أن الصحافة تعني بالحرف الواحد" لن أعيش في جلباب حزبي!"

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان