عندما يحار العقل المستضعف في هوية حاكمه؛ عندما يسرح الفكر المخدَّر في بحث أزمات أمته؛ عندما يغرق العرض المهتوك في دموع حرائره؛ عندما يَؤُم الضمير الميت جنازة قاتله؛ عندما يصرخ الحق المغصوب في وجه غاصبه؛ عندما يُسجن الحرُّ المكبّل بين جدران موطنه؛ عندما يحاسَب المقهور عن يومٍ فكَّر فيه في شيء من كرامته. عندما تصيح الحرية والكرامة والإنسانية والعدالة والمساواة في وجه الطغيان أن مهلا مهلا فلا بقاء لظلمٍ وقد حرَّمه الرَّب على جلالته. عندها يصيح الهارب من رُكام الخوف والفقر والظلام إلى مملكة أوروبا التي يراها فاضلة أن: بابا هولند ماما ميركل، في مشهدٍ تصرخ فيه أمة محمد مصدومةً مفزوعةً مهزومةً بصوتٍ يسمعه الثقلان ومن في الكون ولا من منتبه.
لتصمت العاطفة ولو قليلا، ولنكن صرحاء مع العقل والمنطق وما جرى ويجري حولنا من مهزلةٍ تاريخيةٍ وملحمةٍ ضميريةٍ مرَّت وتمر بها الأمة الإسلامية، ونحن نشاهد آلاف الهاربين المهرولين المسلمين من أوطانهم إلى بلاد العدل والمساواة والحرية أوروبا الفاضلة.
إن من أجبر المسلمين على الهرولة إلى بلاد أوروبا هو انقسام وتشرذم وتبعثر وتقاتل الفصائل المعارضة للنظام بما فيها داعش، ومضيّها بعقلية أن كل من يحمل بندقية يحق له أن يؤسس فصيلا مسلحا. |
قبل أن تفكر في الحكم الشرعي من العيش في بلاد الغرب. فكِّر فيَّ كمواطن يبحث عن لقمةِ عيشٍ ونسمةِ أمنٍ حَلُمتُ بها في وطني لأستيقظ بها تحضُنني في باريسَ وبرلين. فكِّر فيَّ كطفلة بريئة استيقظت من كابوس القصف لتجد نفسها وحيدة بلا أب أو أم فمن ذا الذي يَحميها. فكِّر فيَّ كشاب طموح ذابت كل فرص الحياة في بلده فمن ذا الذي يُحييها. فكِّر فيَّ كشيخٍ عابدٍ زاهدٍ بيته صومعة المسجد التي هدَّمها القصف فمن ذا الذي يبنيها. فكِّر فيَّ كإنسان وثقتُ بإنسان وأن المشترك بيننا الضمير الإنساني لأُصدم به يفرض فشله علي وإن نطقت فالموت والدمار، قلي بربك أي سبيل إلى نفسي حتى ترضى بفشله فأرضيها.
إنَّ من حمل المسلمين على مهزلة القرن الواحد والعشرين والهروب إلى بابا هولند وماما ميركل في مشهدٍ حيَّر الماضي والآتي من الأمم والحضارات، هو استكبار حكامنا عندما لم يدركوا أو يفهموا أو يقتنعوا أن مرحلة حكمهم كانت فاشلة، لم تتحقق فيها شروط الدولة الحديثة المستقرة المحمية بعدالتها وحريتها على الرغم من مضي عقود على حكمهم. إنَّ من حمل المسلمين على الهروب إلى حضن الغرب هو تحالف حكامنا مع من يضمن لهم الاستمرار، لا مع شعوبهم وبني هويَّتهم ليدخل الغريب الدار ويعيث فيها فسادا منتهكا الحرمة ومتبجحا بحجة الحليف الاستراتيجي، والميدان فضَّاحٌ فلولا المصالح المسيلة للعاب الدُّب لما دخل إلى ميدان حرب لا تعنيه.
إنَّ من أجبر المسلمين على الهرولة إلى بلاد أوروبا هو انقسام وتشرذم وتبعثر وتقاتل الفصائل المعارضة للنظام بما فيها داعش ومضيِّها بعقليَّة أنَّ كل من يحمل بندقية يحق له أن يؤسس فصيلا مسلحا. فبعد مراحل متطورة من الحراك الشعبي في بلاد الشام لم يصبح مُسبِّبُ الفتنة والدمار مقتصرا على الحاكم المستبد فحسب، بل تشترك الفصائل المعارضة في صناعة موت شعوبها. كيف لا، وكما يذكر أحد الكتاب: إذا دَخلَتِ الجزائر التاريخ بمليون شهيد، فتدخل سوريا التاريخ بمليون فصيل. كيف لا، وحظوظ النفس ومرض الزعامة يدفع ضريبته الشعب البسيط المهجر من أرضه هاربا إلى بابا هولند وماما ميركل. كيف لا، ورقعة الشطرنج يلعبها الدّب الروسي ضد النّسر الأمريكي والحَكَمُ فيها الرّاعي والحجارة شعبه ودور الفصائل المتناحرة فيها إطالة أمد اللعبة باختلافها وتشرذمها. كل هذا يحدث في ميدانٍ لونه لون الدَّم السوري وريحه ريح جيفة الضمير الإنساني وترابه بلَّلته دموع براءة الطفولة الجريحة التي شابت من قسوة ما عاشت ولم تفهم بعد لما وما ذنبها في ذلك.
ودمشقــنا بالدَّمع تغسل عارنــا وتنـادي أيــن الفاتحون لنصرتي
بالأمس كان الكون تحت جناحنا واليوم باع العرب سيف عقيدتي
وغير بعيد عن الشام وفي بعض البلدان المستقرة أمنيا المضطربة إصلاحيا أين يخيِّم شبح البطالة والفقر والفساد تسمع صوتا ينادي: عندما يئن الشاب المكلوم من قسوة الواقع ولا من يسمعه، عندما يتيه المغلوب في أدغال مصاعب الدنيا ولا من دليل ولا من ينقذه، عندما يحار المحروم في كيف! ومتى! وأين! الخلاص من دكن الظلام ووحشته، عندما تدوِّي آهات المكبوت لتصل السماء ولا من مغيث ولا من يفهمه، عندما يطرق المحتاج أبواب من بيدهم المفاتيح ولا من رادٍّ ولا من منتبه.
عندها يعيش الشاب حقيقة أن يكون ميتا وهو حي، ولا من قسوة كقسوة الحي وهو يعيش ميتته. يهرب الشاب في قوارب الموت من الموت إلى الموت وهو يصيح بأعلى صوته "يأكلني الحوت لا الدود" ليشفق الحوت على الشاب في مشهد يسفِّه الحكَّام ولا من رشيد ولا من منتصح. كتبتها وكلي يقين أن من رحم الأزمات تولد الانتصارات. وأن النصر آت لا محالة وأن التاريخ يُكتب ويُقرأ ويُصنع، فاختر أنت ما شئت.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.